كان من الصعب على الوجدان المسيحي اللبناني الشعبي أن يتقبَّل فكرة ظهور خطر وجودي وداهم هو الإرهاب التكفيري، يتقدَّم على ما يعتبره الأخطار التقليدية والتاريخية.
أفصل بين “الشعبي” و”السياسي” لأن دوافع القوى المسيحية اللبنانية التي تجاهلت الخطر التكفيري مرتبطة بمصلحة سياسية تقتضي نفي خطر التشدد والتكفير والتخفيف من وطأته أولاً، وثانياً وبعد بروزه، تبريره بتحميل مسؤولية إيقاظه للنفوذ الإيراني في المشرق والنظام السوري و”حزب الله”، وفي أقصى الأحوال المساواة بين ما عرف بمفهومي “داعش” و”حالش”، في قراءة اختزالية وسطحية ومشوِّهة لظهور التكفير في التاريخ الإسلامي وانتشاره.
جوهر القصيد هنا ليس سلوك تلك القوى والشخصيات السياسية، بل محاولة فهم الأسباب التي تجعل وجوهاً عامة مسيحية ومواطنين عاديين مستقلين يطرحون أسئلة من نوع “شو يعني تكفيري”، أو “هلقد خطرين وللا في تضخيم…”، “ما سوريا هيي اللي خلقتن”… وغيرها الكثير التي سمعناها ونسمعها كل يوم. هذه الأسئلة تعبِّر عن الصدمة التي تلقاها الوجدان المسيحي اللبناني التقليدي بعدما ظهر خطر مختلف عن تلك المخاطر التي واجهها منذ تأسيس الإختراع المسيحي، لبنان الكبير، عام 1920. ما عزِّز الصدمة أنَّ الخطر المستجدّ مجهول الملامح، ضبابي، عناصره متشابكة، لا صورة واضحة له، كما هي صور الأخطار التقليدية.
الأسس التقليدية للوجدان المسيحي
كان لبنان الكبير الإبن الشرعي للمسيحية السياسية والمارونية تحديداً، وواجه منذ نشأته أزمة شرعية بين مكوناته، وأزمة عدم اعتراف مع محيطه العربي من البوابة السورية، فضلاً عن الخطر الإسرائيلي. فكان هاجس المسيحيين حماية وطنهم من الإبتلاع والضم ومحاولة استخدامه ورقة في الصراعات الإقليمية وتنفيسها فيه، ومن أي محاولة لتغيير نموذجه ككيان للحرية والعيش بمساواة ومشاركة الطوائف في النظام السياسي من دون تحديد لدين الدولة، والحفاظ على استقراره.
لذلك كان الخطر بالنسبة للوجدان المسيحي، ذلك الذي يهز استقرار الكيان وهدوءه: مصر الناصرية، الأنظمة السورية المتعاقبة، الصراع الإسرائيلي العربي، المنظمات الفلسطينية المسلحة، ولاحقاً إيران الخمينية المتشددة و”حزب الله”. وقد حفرت مواجهة هذه المخاطر عميقاً في وجدان مسيحيي لبنان، وخاصة مع النظام السوري لأنها كانت الأقسى. من جهة أخرى، كانت التطورات والمخاطر تدور في ظل نظام إقليمي محدد نشأ بعد سقوط الامبراطورية العثمانية سمي بـ”سايكس – بيكو”، عماده الدول “القُطرية” المحكومة من أنظمة بنت شرعيتها على الفكرة القومية.
تلك المخاطر كانت ذات طبيعة جيواستراتيجية، وثانياً نابعة من دول وأنظمة واضحة صورتها ومصالحها وقيادتها.
زلزال انهيار المشرق وتنامي التكفير
ما بين تلك المخاطر التقليدية والخطر التكفيري المستجد، تختلف ثلاثة عناصر: طبيعة الخطر ومنشأه، صورته، النظام الإقليمي المستولد في كنفه.
تنامت الحالة التفكيرية بعد هزيمة 1967 وحرب أفغانستان، وفي لبنان ظهرت في الثمانينات ولم تكن إيران الأصولية بعيدة عن دعمها، مع حركة التوحيد في طرابلس وغيرها، وصولاً إلى تنظيمات عين الحلوة. وبعد التسعينات بدأنا نسمع بمحاولة تفجير دير البلمند وصولاً لمواجهة الضنية عام 2000، ولاحقاً حرب نهر البارد. لكن كان زلزال سقوط الدولة في العراق عام 2003، وسقوط النظام الإقليمي كما عرفه لبنان ومسيحيوه سابقاً، هو المفصل الذي عزز البؤر والبيئة المناسبة لتنامي العمل التكفيري في المنطقة. وأتت الحرب السورية لتوسع دائرة التفكك. وبات السماع بتنظيمات جديدة، وبتفجيرات وصدامات مع الجيش، دورياً. هنا الخطر صار أكثر بروزاً للعين المجردة.
أمام الحقائق الجديدة، بدا الوجدان المسيحي اللبناني التقليدي أمام هزة كبيرة تزعزع أسسه. بعضه وعى الخطر، لكن شريحة أخرى بدت رافضة، مرتبكة، مشككة: هل يعقل أن يكون هناك خطر أكبر من ذلك النظام الذي قاتلناه في الأشرفية وزحلة؟ هل هناك ما هو أخطر من تنظيم عسكري داخلي ذي ارتباطات خارجية، لديه سلاح ويمارس أمامنا سياسة “فائض القوة”، وفي يده القرار الإستراتيجي؟ إن قوة الهزة تسمح بتفهم حجم التشكيك والأسئلة والرفض، وأكرر “الشعبي” العادي لا السياسي.
الظاهرة التكفيرية مجهولة ومعقّدة
ما اختلف أنَّ الظاهرة التكفيرية مجهولة، غامضة، لا تاريخ لها في المواجهة مع المسيحيين اللبنانيين، مثل القوى الفلسطينية أو النظام السوري. العامل الأساسي المساعد هو اختلاف طبيعة التهديدين أو “الخطرين” وصورتهما، هو الرؤية أمام العين. فالظاهرة التكفيرية هي أولاً حالة اجتماعية سياسية مستمرة ذات طبيعة عقائدية مرتبطة بتفسيرات معينة للدين الإسلامي، تطورت عبر قرون من مجرد حالة عقائدية متشددة إلى تعبير عملي عبر منطلقات سياسية وتنظيمات تكفّر وتفجّر وتستهدف كل آخر مختلف. مرت بمراحل منذ العصر العباسي مع الإمام أحمد بن حنبل، وصولاً إلى الشيخ إبن تيمية، ووجدت الترجمة السياسية الأولى لها بظهور الدعوة الوهابية، ولاحقاً من خلال منظمات بعضها خرج من رحم تنظيم “الإخوان المسلمين” أو على هامشه، خاصة بعد إعدام المنظر الأكبر للتكفير المصري سيد قطب. فانطلقت المنظمات الجهادية، وصارت تتكاثر وتخلق بؤراً لعنفها، وهي في معظمها لا تركيبة متماسكة لها، تريد إلغاء الجميع بالعنف والسيف مما أضفى عليها صورة منفلشة ومجهولة.
ما عقّد الموضوع أكثر، سهولة استخدام التنظيمات التكفيرية من قوى متناقضة، وظاهرة الإنقلاب على مستخدميها. بمعنى يمكن أن يغض السادات النظر عنها لتواجه “مراكز القوى” اليسارية، لكنها ترتد عليه. وتدعمها أميركا في أفغانستان لكنها تضربها لاحقاً، ويضرب النظام السوري “الإخوان” لكنه يدعم مرور الجهاديين لمحاربة الأميركيين في العراق، وتستخدمها قوى لبنانية فزاعة لمحاربة “حزب الله” لكنها تعود لتهددها.
في مقابل تعقيد صورة الخطر التكفيري، من الأسهل لوجدان أي شاب مسيحي لبناني أن يحدِّد الخطر بالعودة إلى الماضي، بدل أن يبدل منظومة أفكاره التي تتعرض لاهتزاز قوي. أقله من الناحية الإعلامية، أسهل جداً أن يتذكَّر القذائف التي أسقطها الجيش السوري من مناقشته بأفكار سيد قطب، وبشرح المودودي، أو تذكيره بأن إبن تيمية لم يميّز بين العلويين والدروز و”النصارى” في تكفيره. هو رأى عناصر المخابرات السورية على الحاجز وسمع عن تدمير حماة لكنه لم يحتكّ بأتباع مروان حديد و”الطليعة المقاتلة”، ولم يقرأ كتب قيادات إخوانية سورية تستخدم المصطلحات التحقيرية كـ”النصيريين”. إضافةً إلى ذلك، هو يرى “القوة الصلبة” مثلاً لـ”حزب الله” أمامه، من استعراضات عسكرية وغيرها، فيركز على المظاهر المنفِّرة القريبة منه ويتغافل عن الخطر الأدهى خلف الحدود.
هناك اختلاف مسيحي حول تحديد الأخطار، لكن المهم أن يتذكر مسيحيو لبنان دوماً أن وجع الإلتهاب القريب لا يحجب خطورة المرض الأدهى المستكين.
كاتب سياسي