ربما بات جائزاً اليوم الحديث عن مظاهر «ممانعة» جديدة أفرزتها الثورة السورية على غفلة منها، تتمثل في خطابية مؤدلجة وإقصائية الى حد بعيد، من دون أن تستند فعلياً إلى أرضية فكرية متماسكة أو «ايديولوجيا» محددة، إلا ذلك الشعور العميق بصوابية القضية وأحقيّتها.
والاستعانة بتعبير «الممانعة» في هذا السياق لا تأتي الا بصفتها مدخلاً لتعريف الشيء بنقيضه، سيما أن نقاط التقاطع بين «الممانعين التقليدين» الذين يفسرون الكون ويلخصونه انطلاقاً من القضية الفلسطينية، و«ممانعي الثورة» في سورية باتت أكثر من أن يتم تجاهلها.
ومن ذلك مثلاً لا حصراً، جعل الموقف من الثورة مدخلاً لأي نقاش سياسي أو ثقافي أو فكري، وميزاناً أخلاقياً بالدرجة الأولى لتقييم الأعمال والأفراد، بحيث يصبح التمايز ضمن الصف الواحد اقرب الى الكفر. يكفي مثلاً ان تطرح في لبنان أزمة اللجوء وتعبّر ولو جزئياً عن مخاوف من عبء انساني واقتصادي تشكله على بلد متهالك أصلاً، لتُتهم بصعود «نزعة لبنانية» في المتكلّم، كي لا يقال عنصرية. وإذا تجرأت وأفصحت عن حيرة ما تجاه فشل الثورة في انتاج وجوه شابة وديناميكية لم تطاولها لوثة الفساد «الإغاثي» بعد، لتكون موضع ثقة محلياً ودولياً، وضعتَ مباشرة في خانة المدافعين عن «تخاذل الغرب» وتخليه عن ثورة يتيمة. هذا ولم نصل بعد الى الحديث عن ضرورة صوغ خطاب سياسي يتمتع بالحد الأدنى من التماسك وعرض متكامل للائحة المطالب المحقة يكون موضع قبول (لتعذر الإجماع) بين مختلف الأطراف المعارضة. أما ذكر «البراغماتية» والتفاوض كآليات سياسية «سلمية» لتحقيق الأهداف والحد من الأضرار، فكفيل بحذفك من قوائم الشرف الثورية.
إنها استعادة صريحة لأدبيات الممانعة في استسهال التخوين وكيل التهم ورفض أية دعوة إلى تجديد الخطاب وآليات العمل بما يستجيب تطلعات السوريين ويتلاءم مع تدرج الثورة نفسها من سلمية الى عسكرية، خصوصاً في ظل انقطاع «السياسيين» عن الواقع وانصراف من بقي من الناشطين الى العمل الإغاثي الإسعافي.
وهو، الى ذلك، تكرار مطابق لما جرى مع الفلسطينيين وانتفاضاتهم وما تمخض عنها لاحقاً من تصلب يجعل من يؤيد القضية مضطراً للإذعان إلى قادتها والقبول بمساراتها (وإن انحرفت) تحت وطأة الاتهام بالتخلي عنها… فإما أن يكون معها أو ضدها. وتحت هذا الشعار العريض ارتكب ما ارتكب في العالم العربي كله، من دون أن تعود فلسطين لأهلها. ولسبب محيّر فإن هذا تحديداً ما يستعاد اليوم في القضية السورية التي لا تقل صوابية وأحقية عن سابقتها، فتراها تخطو على خطاها على رغم وجود أدلة مسبقة بعدم جدوى ذلك.
والحال أن واحدة من المعضلات تكمن في من يرغب في أن يستعيض بدمشق بوصلة عن القدس، ويجعل القضايا حصرية وأحادية بما لا يترك مجالاً لتنويعها وإعادة البحث فيها مع ما ينتج من ذلك من مواقف متشنجة تقمع أي صوت مغاير.
ثمة بين السوريين واللبنانيين المؤيدين للثورة، استنساب للذات بالأحقية والصواب والتفوّق الأخلاقي (self- righteousness) يجعل من الصعب البحث عن ارضيات مشتركة ضمن الفريق الواحد، فكيف بمد جسور مع أطياف أخرى من المجتمع السوري، ثائراً كان أم غير ثائر.
ولعل من الهوّات التي بدأت تتعمق تدريجياً تلك التي نشأت بين شرائح اللاجئين المختلفة، والفوارق الهائلة بين من يقيم في خيمة على الحدود ومن يتمتع بمستوى معيشي مقبول نسبياً في بيروت أو غيرها. تضاف الى ذلك غربة حقيقية ومرارة متراكمة بين سوريي الخارج وسوريي الداخل، لا سيما منهم هؤلاء الذين لا يزالون قادرين على الانتقال عبر الحدود. فراحت أخيراً تطفو على السطح لغة اتهامية متبادلة بين من «صمد» ومن «هرب»، أو على الضفة الأخرى بين من «هادن» السلطة، ومن «جابهها» فدفع الثمن نفياً مؤبداً… أليس ذلك هو التراشق نفسه الدائر بين فلسطينيي الـ 48 وفلسطينيي الشتات منذ النكبة وحتى يومنا هذا؟
من المؤلم جداً ان تكون السياسة فن الممكن عندما يوضع على المحك مصير شعب صاحب قضية محقة انسانياً وإخلاقياً وسياسياً، لكن المؤلم أيضاً والمميت لأية قضية هو ألا يعلو صوت فوقها… أوليست ذروة الممانعة تحديد البوصلة ورسم طريق وحيدة لبلوغ وجهتها؟