ثمّة من يُسوّق أو يظنّ أو يُشيع أنّ موجة التفجيرات الإرهابية التي تستهدف لبنان، متصلة حصراً بخلق وقائع أمنية تدفع في اتجاه إحراج «حزب الله» ورئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون في ملف الرئاسة، وبالتالي دفعهما الى التنازل والموافقة على صيغة رئاسية تشبه تلك التي جاءت بالحكومة.
هذا القفز نحو القياس والتشبيه بين ظروف تأليف الحكومة وظروف الشغور الرئاسي يبقى ناقصاً إذا إقتصر على الأبعاد المحلية، ويصبح مع اتّضاح صورة المشاريع الاقليمية التي تُمرَّر في الاقليم، في المكان الأخير من الاحتمالات والترجيحات في قراءة وفهم حقيقة القرار المتخذ بتفجير لبنان.
عند مفاتحة «حزب الله» أو عون بضرورة «الإسراع في انتخاب رئيس توافقي»، على غرار تجربة العام 2008، بسبب الظروف الامنية المستجدة والموجة الارهابية التي تضرب لبنان… سيكون الجواب البديهي: هل كان وجود رئيس للجمهورية في بعبدا يمنع أو يحاصر هذا النوع من الاعمال الارهابية؟
لن تقف الاجابة عند هذا الحد، وهناك مَن سيكمل الجملة: ما هي ضمانة توقّف الاعمال التخريبية اذا وافقنا على هذا الطرح؟ وفي حال وجود ضمانة، ما هي علاقة صاحب الضمانات بالجهات التي تستهدف لبنان وهل يمون عليها؟ أم تريدون أن تنتخب «داعش» رئيس الجمهورية؟
إذا كان الجواب بالنفي، يتوقف النقاش عند هذا الحد. أما اذا تبيّن وجود قوى قادرة على تقديم ضمانات والضغط على الارهابيّين لوقف عملياتهم التخريبية، فلماذا لا تبادر منذ الآن الى «حماية البلد» واقتصاده وموسم اصطيافه وأرواح أبنائه، ومن ثمّ الى خلق مناخات أمنية وسياسية مؤاتية لمناقشة الاحتمالات الرئاسية كلّها؟
عندما «تسامح» محور المقاومة من طهران الى بيروت مروراً ببغداد ودمشق، في تأليف الحكومة، كانت الوقائع السياسية والعسكرية تصب في مصلحته. منذ انتهاء مؤتمر «جنيف 2» وعودة الزخم إلى الميدان السوري، بدا واضحاً أنّ هذا المحور في طريقه نحو التحقق والتشكّل مجدداً، وذلك بعد محاولات إسقاطه انطلاقاً من سوريا. وكان الرأي يومها عدم تدفيع لبنان او اللبنانيين أيّ ثمن في سياق الحرب المفتوحة في كل الاقليم. وبناءً على هذا التصوّر، جرت الموافقة على تأليف الحكومة بالصيغة التشاركية التي حصلت، وإعادة فريق «14 آذار» الى السلطة بقوة، وإيلاء الشأن الامني ومكافحة الارهاب الأولوية القصوى.
نجحت هذه الصيغة لشهرين او ثلاثة اشهر، واستفاد لبنان من إشاعة اجواء بداية التفاهم بين طهران والرياض بتفهّم اميركي. قدّم «محور المقاومة» تنازلات سياسية محلية لأنه كان مرتاحاً، ولم يكن يريد استمرار «النزف اللبناني» المجاني في منطقة بدت أنها تقف على مشارف «تسويات وتفاهمات».
بعد 3 حزيران 2014، تغيَّر كل شيء. تأكد للجميع أنّ الحلف الممتد من طهران الى بيروت خرج من الجولة الاولى للحرب متقدماً بالنقاط. زاد على هذا المعطى بداية الحوار الثنائي الاميركي – الايراني على الملف النووي، ووجدت قوى إقليمية كالسعودية واسرائيل نفسها في موقع المتضرّر الاكبر. تقاطعت المصالح بين الطرفين في العراق: السعودية ترغب في قلب الطاولة بوجه طهران وواشنطن والقول: انا هنا، وتل أبيب تريد الشروع في تنفيذ رؤيتها للشرق الاوسط المفتّت وفرض وقائع صلبة على الاميركيين وغيرهم في هذا السياق.
غزوة «داعش» للموصل وفرض الاكراد سيطرتهم على كركوك، أعادت خلق الاوراق وتغيير الاولويات والخطط. وجعلت «محور المقاومة» في موقع الدفاع عن بغداد بعد تأمين دمشق، فهل سيقدم على تنازلات في لبنان تحت وطأة التفجيرات الانتحارية؟
الصورة التي ارتسمت بعد سيطرة «داعش» على جزء وافر من شمال العراق وسوريا، وبداية إنجاز الكيان الكردي المستقل، والهجمة التي يتعرّض لها المحور نفسه في بيروت، وعودة بعض الاصوات التي تحرّض مذهبياً وتُنذر بعودة الامور الى ما قبل تأليف الحكومة وتنفيذ الخطة الامنية، كلّها مؤشرات على حقبة جديدة ومعركة جديدة في الحرب المفتوحة، ومن المستبعد او شبه المستحيل الآن أن تفضي هذه التعقيدات الى رئيس جمهورية توافقي في لبنان.
التوافق يحصل بديهياً بين قوى تنجز تسويات، والقوى المعنية بالملف اللبناني في حرب معلنة على مستوى الاقليم، والهجمات الإرهابية على لبنان جزء من هذه الحرب، وبالتالي ليس امام اللبنانيين سوى تأكيد القرار السياسي بحماية الامن أولاً ومحاولة الحد من العمليات الارهابية، ومن ثم انتظار جلاء غبار المعركة الممتدة من الانبار والموصل (جبهة السعودية)، الى الجولان ودرعا والقنيطرة (جبهة اسرائيل).