قرأتُ مؤخّرا كتاب بسام أبو شريف الأخير: “وديع حداد ثائر أم إرهابي” (دار رياض الريس). وديع حداد للتذكير، هو القيادي في “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” وشريك جورج حبش في تأسيسها ولكنه اشتهر عالميا بإدارة تنظيم العمليات الخارجية ضد “المصالح الإسرائيلية” ومنها خطف الطائرات وأخذ رهائن أشهرها احتجاز وزراء نفط منظمة أوبك.
في هذا الكتاب فصلٌ (الخامس عشر) تحت عنوان “التحالف بين أندروبوف ووديع حداد”. يوري أندروبوف الذي سيصبح في الثمانينات الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي كان في تلك الفترة التي يتحدّث عنها بسام أبو شريف (1973) رئيس المخابرات في الدولة العظمى الثانية في العالم. يروي أبو شريف، وليس لنا أي مبرر لكي لا نصدّقه على هذا الصعيد، وهو المسؤول الإعلامي في “الجبهة” يومها وأحد وجوهها السياسية،… يروي أن أندروبوف طلب مقابلة وديع حداد الذي ذهب إلى موسكو والتقاه مرّتين وأن وديع حداد “توقّع… أن يطرح أندروبوف معه وقف عمليّاته الصداميّة، كخطف الطائرات، إلا أن الأخير لم يشر إطلاقاً إلى هذا الموضوع” (ص169).
تعنينا هذه المعلومة من زاوية شديدة الأهمية، هي أن الدول العظمى يمكن أن تلتقي سياساتها على دعم تنظيم يستخدم “الإرهاب” أو الوسائل غير القانونية. كذلك هناك فصل شيّق (الرابع عشر) عن علاقة وديع حداد بالمخابرات المصرية في أوائل عهد الرئيس أنور السادات عندما طلبت من حداد تكثيف عملياته الخارجية ضد إسرائيل كجزء من إبعاد انتباه تل أبيب عن التحضيرات المصرية لحرب أكتوبر. وهذا على الرغم من النقد الشديد في وسائل إعلام “الجبهة الشعبية” لسياسات السادات بعد طرد الخبراء الروس وبدء تقاربه مع واشنطن (ص161).
ولهذا وحدهم السُذّج لا يرون أي صلة في زمننا الراهن بين تنظيم “داعش” وبين سياسات بعض الدول بل أكثر من دولة. فلم يقل لنا أحدٌ حتى الآن كيف يولد تنظيم من هذا النوع وينتشر على مساحات واسعة من سوريا والعراق عبر الحدود التركية – السورية في البداية ثم ينتقل جنوبا إلى حدود أخرى من دون دعم دول وأجهزة مخابرات بما فيها “الدولة” الكردية في شمال العراق وهي التي قبضت الثمن سلفاً عبر السيطرة السهلة على كركوك. وسواء اتخذ هذا الدعم شكل تنسيق مباشر أو غض نظر. حتى النقمة الشعبية السنية في مناطق “داعش” ليست كافية لا لولادة هذا التنظيم ولا لانتشاره العسكري.
هذا ما ثبت في حالة “طالبان” الأفغانية التي انطلقت من مدارس باكستان الدينية في التسعينات من القرن المنصرم بدعمٍ، يومها، من المخابرات الباكستانية، واكتسحت الأراضي الأفغانية واحتضنت تنظيم “القاعدة” بعد تمرّد أسامة بن لادن على المخابرات الأميركية والسعودية.
قصة “حزب الله” اللبناني قصة معلنة، فهو وُلد جهاراً في كنف الحرس الثوري الإيراني وهو حتى اليوم ورغم تصاعد أهميته الاستراتيجية في المنطقة لا يزال جزءاً لا يتجزّأ من السياسة الإيرانية المباشرة.
امتلأ الفكر السياسي الأميركي في العقدين ونصف العقد المنصرمين بتحليلات وتوقعات كثيرة عن تصاعد أدوار المنظمات غير الدولتية في الصراع السياسي وأهمها “القاعدة”. ومنذ فترة كنتُ أراجع المجموعة الورقية لأعداد المجلة الأميركية المرموقة “فورين أفيرز” التي أحتفظ بها منذ أوائل التسعينات وأتابعها إلى اليوم فتبين لي أن المفكرين الاستراتيجيين الأميركيين أسهبوا في توقع صعود أدوار المنظمات غير الدولتية سنواتٍ عديدة قبل تفجيرات 11 أيلول 2001. وكان التحليل الأساسي في هذا المجال أن الظاهرة الأمنية اللادولتية هذه هي جزءٌ من ظاهرة العولمة التي تشمل المجالات المالية والاقتصادية والثقافية. (بهذا المعنى مايكروسوفت وغوغل وداعش وبوكوحرام وليدة عولمة واحدة!!!).
لكن لم يظهر أن الدول وقفت عاجزة أمام صعود هذه المنظمات. ففي العديد من الحالات تبيّن أن بعض الدول استفاد بل وظّف إمكانات هذه المنظمات في تقاطعات مصالح معيّنة. وفي حالات أخرى ضربها وضرب فعاليّتها بقوة شديدة أدت إلى تعطيلها جزئيا وأحيانا كليا على أراضيها (أي أراضي تلك الدول).
لهذا السؤال الكبير الذي ستجيب عليه المرحلة المقبلة هو: هل “داعش” كيانٌ حقيقي أم مجرّد أداة عابرة؟ ولا زلتُ في المربع الأول: كيف وُلد وكيف انتشر وكيف بُعث حياً؟ وهذا سؤال متفائل لأنه يعني أن تسويات الدول مثلما أطلقته تستطيع أن تضع حداً له إذا أرادت.