إجماع اللبنانيين على دعم الجيش في مواجهة هجمة تنظيم «داعش» وتسلله الى منطقة عرسال، لا يقتضي أي ثمن، ولا يكون إجماعاً إذا اقترن بأي شرط. صحيح أن الجيشين العراقي والسوري ومعهما الفصائل الكردية المقاتلة، لم تقوَ بعد على دحر «داعش» وفظائعه، لكن الصحيح ايضاً أن للبنان ظروفاً وبيئات ومجتمعات تلفظ سحق تعددها، مهما عانى بعضها من مظالم وإهمال.
ويتيح الالتفاف حول الجيش فرصة ثمينة لمعالجة الجسد اللبناني المريض، وإنقاذه من غيبوبة الفوضى وسط براكين الحقد والقتل في المنطقة، لكنه لا يقدم ضماناً أكيداً بأن الطبقة السياسية تريد التقاط العِبر من وقائع زلزال يضرب الدول العربية منذ نحو ثلاث سنوات ونصف سنة.
لا شروط يُفترض ان تقيّد دور الجيش اللبناني في الدفاع عن سيادة البلد، وعن أمن مواطنيه درءاً لتمدد مشاهد الطوفان الهائل من النازحين والمهجّرين، صوَر أوطان المخيمات، الجوع والموت والطوابير الخامسة التي لا يعرف أحد هويتها، أو هوية موحدة لها.
لا تشكيك في المؤسسة العسكرية يمكن تبريره فيما معركة لبنان «معركة وجود»، كما قال النائب وليد جنبلاط الذي انعطف مجدداً في موقفه من تدخل «حزب الله» في سورية، حين رفض «اسطوانة» القول إن التكفيريين لم يكونوا ليأتوا الى لبنان لولا ذلك التدخل. عملياً سعى زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي إلى فك الطوق عن التدخل، وهو لا يرى، أو لم يعد يرى أي علاقة بين اختراق «حزب الله» الحدود وإرساله مقاتلين الى سورية وبين أي ظاهرة معاكسة في اتجاه الأراضي اللبنانية، تراهن على متعاطفين بمنطق الذريعة.
والحال ان هذا المنطق يدين ذاته، فـ «حزب الله» ليس «داعش» ولا «جبهة النصرة»، لكنه ارتكب من الأخطاء ما يكفي لجعل لبنان ساحة مكشوفة، مثلما انزلقت «14 آذار» إلى سقطات تركت قاعدتها الشعبية مكشوفة ومعزولة أمام تمدد 8 آذار لابتلاع الدولة.
فلنحصِ أولاً نتائج ما ارتكبه تنظيم «داعش»: بدءاً من تحطيم الحدود العراقية- السورية والسورية- اللبنانية، مروراً بإثارة الذعر لدى أتباع مذاهب أو طوائف، وانتهاء بتكريس شرذمة سورية والعراق، وإلحاق لبنان بنار البركان السوري. والتنظيم (الدولة الإسلامية) «المارد» الذي جزم زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي باستحالة السيطرة عليه بعدما خرج من «القمقم»، يهدد لبنان وجيشه بحرب استنزاف لم يفت وقت تفاديها، لكن شرطه وحيد: إدراك «حزب الله» أن الوقت حان للخروج الكبير من ساحات الدماء السورية، وأنه سيحظى بإجماع لبناني نادر، إذا انكفأ للدفاع عن حدود لبنان، من الخطوط الخلفية، مؤازراً الجيش.
ولن يكون تحصين للبلد من دون إجماع آخر على حتمية عودة العقل والحياة السياسية للبنان، إذا كان الإنقاذ مطلوباً للجميع. الشرط الوحيد هو اقتناع مَنْ خطفوا حيوية المؤسسات الدستورية بأن لا فرصة أخرى للتنازل عن العنتريات وحروب داحس والغبراء وأوهام القتال بسيوف الطوائف التي تحوّلت رهائن.
وإذا كان التكفيريون في المنطقة وعلى حافات رياحها المذهبية، يقاتلون زوراً باسم الشريعة و «الخلافة»، ففي لبنان بين القادة والزعماء مَنْ قاتل ردحاً وزوراً باسم طائفة وأكثر من طائفة، ليحصد امتيازات ومكاسب. قبل «داعش» أجيال في السياسة، امتهنت الخديعة، والحصاد شعوب فقيرة وأفواج خريجين لا ترى أوطانها إلا في أقفاص بطاركة الحقيقة المطلقة.
وبلا شطط كثير، فلنسأل الجنرال ميشال عون، بأي وسيلة سيستفتي اللبنانيين على دعوته الى تطبيق «معاهدة الأخوّة» مع سورية، لضبط الحدود، وكأن شيئاً لم يتغيّر منذ انتفاضة السوريين وثورتهم… أو أنه ضامن لشرعية النظام في دمشق. ما يقوله الجنرال عملياً هو: امام «داعش» لا مناص من التعاون مع النظام السوري.
وبلا مزيد من الشطط ايضاً، عن احتمالات سيئة ومريرة إذا نجح تنظيم «داعش» في جرّ الجيش اللبناني إلى حرب استنزاف طويلة، فلنهنأ بتعاطف الرئيس الإيراني حسن روحاني مع «الشعوب في فلسطين وسورية والعراق ولبنان». هو يهنئ الشعب الفلسطيني في غزة بـ «انتصاره على أكثر الكيانات دموية». حوالى ألفي شهيد فلسطيني في أقل من شهر، والحرب لم تنتهِ، فكيف وبأي ثمن؟
هل يعرف روحاني لماذا تتزامن شلالات الدماء في العراق وسورية ولبنان وفلسطين؟ هل يعرف «حكماء» لبنان مَن أطلق «مارد داعش» من القمقم؟ وأين يخطئ القائلون بالمرحلة التجريبية للاتفاق النهائي، النووي- الإقليمي، بين طهران والدول الست؟
ربما يظن بعض «حكماء» لبنان أنهم اخترعوا إجماعاً وطنياً بالالتفاف حول الجيش الذي يقدم الشهداء باسم لبنان، لا طوائفه ولا أحزابه. والكارثة ان الإجماع ذاته يتبخر حين يتعامى الساسة عن حتمية التنازلات في الداخل ووقف افتعال الحرائق والتحريض، ووقف تجويف المؤسسات الدستورية، لحماية وحدة الحدود من الحريق الكبير والانهيار.