IMLebanon

عن علاقة المسيحيين بالله

قضي الامر. فقد اصدرت المحكمة العليا في كوالالمبور في ماليزيا الحكم النهائي في قضية دينية خلافية ادت الى صدامات طائفية اودت بحياة عدد من الابرياء. ينص الحكم على انه ليس من حق المسيحيين في ماليزيا استعمال كلمة الله. وتبريرا لذلك يقول الحكم ان الكلمة خاصة بالمسلمين وحدهم. اما الكلمة الخاصة بالمسيحيين فهي الاله وبالانكليزية (God).

لم يقل الحكم ما اذا كان يمنع على المسلمين استعمال كلمة God باعتبار انها خاصة بالمسيحيين (؟) كما انه لم يبين الاختلافات ما بين الكلمتين. وكأن الله هو غير الاله رب العالمين، او كأن اختلاف اللغة يغير مفهوم الله.

قرار المحكمة الماليزية غريب. ذلك ان تعدد الاديان في ماليزيا (الاسلام والمسيحية) لا يعني تعدد الآلهة. بمعنى انه لكل دين اله. فالله واحد، والتعدد هو في صيغ وفي طرق التعبير عن الايمان بالله الواحد. والله وحده هو الذي يحكم بين الناس يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون. اي ان الحكم على التباينات الايمانية هو ملك الله وحده. وان توقيت ذلك مؤجل حتى يوم القيامة. وهذا يعني ان التباينات سوف تستمر حتى يصدر بشأنها حكم الله، وليس حكم اي انسان، او اي محكمة.

هذا في الشكل. اما في الاساس فان القرآن الكريم نفسه يصف المسيحيين واليهود وكذلك الصائبة بأنهم يؤمنون بالله. وقد نصت على ذلك الآية القرآنية (البقرة 62) التي تقول: “ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون”.

فاذا كان القرآن في نص هذه الآية يقول عن المسيحيين انهم مؤمنون بالله… فكيف يمكن ان يصدر حكم عن محكمة اسلامية في دولة اسلامية ينص على منعهم من استعمال كلمة الله الذي يؤمنون به… والذي يقول الله، جل شأنه، عنهم انهم يؤمنون به؟

اكثر من ذلك. لقد آمن رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام كما ورد في القرآن الكريم، ليس فقط بما انزل اليه من ربه، ولكنه آمن والمؤمنون، بالله وملائكته وكتبه ورسله (البقرة 285). والكتب (بالجمع)، انزلت قبل القرآن الكريم. والرسل (بالجمع) ارسلوا قبل النبي محمد، بمن فيهم موسى وعيسى عليهما السلام. ولم يتوقف الامر عند مجرد الايمان فقط، بل ان الآية القرآنية قالت ايضا: “لا نفرق بين احد من رسله وقالوا سمعنا واطعنا غفرانك ربنا واليك المصير”. فهل ان الحكم الماليزي يعكس سمعا وطاعة لهذه المبادئ والتعاليم القرآنية؟

يصف القرآن الكريم الانجيل المقدس بقوله: “فيه هدى ونور” (المائدة 46). ويدعو اهل الانجيل، اي المسيحيين، ليحكموا بما انزل الله فيه. اي ان القرآن الكريم يقول ان الله هو الذي انزل الانجيل، فكيف يعقل ان يمنع اهل الانجيل من استعمال كلمة الله الذي انزل هذا الانجيل؟ ثم ان القرآن الكريم (المائدة 47) يخاطب المسيحيين بقوله: “ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الفاسقون”. اي ان الله سبحانه وتعالى يحض المسيحيين على الحكم بما انزل لهم في الانجيل. وليس في القرآن الكريم حتى تفرض عليهم الشريعة الاسلامية، او الاجتهادات الانسانية المتعددة والمختلفة للشريعة الاسلامية.

يذهب القرآن الكريم بعيدا في دعوته اليهود والمسيحيين الى الالتزام بالتوراة وبالانجيل وما انزل الله فيهما، حتى انه يقول “لو انهم اقاموا التوراة والانجيل وما انزل اليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم (المائدة 66). اي لكانت نعمة الله امنا وسلاما ورخاء وازدهارا قد غمرتهم. كان جديرا بالمحكمة الماليزية ان تتوقف في ضوء ذلك امام امرين جوهريين قبل اصدار الحكم. ولو انها فعلت ذلك لجاء الحكم على عكس ما تضمنه من منع غير مبرر.

الأمر الأول هو اعلان القرآن الكريم “اليوم أحلّ لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب (اليهود والنصارى تحديداً) حلّ لكم وطعامكم حلّ لهم” (المائدة 5). أي إن الله أحلّ طعام المسيحيين للمسلمين، وطعام المسلمين للمسيحيين. وتمضي الآية القرآنية لتعلن أيضاً أن الله أحلّ للمسلمين “المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم” (المائدة 5). أي إنه أحل زواج المسلمين من المسيحيات واليهوديات. وهذا يعني من خلال إباحة الطعام والشراب ومن خلال إباحة الزواج، إقامة وحدة مجتمعية، وحتى وحدة عائلية متعددة المكونات الدينية. فكيف تكون كلمة “الله” حقاً حصرياً للمسلمين دون المؤمنين الآخرين الذين يشكلون هذه الوحدة في التعدد؟ ثم ان القرآن الكريم يصنف الكنائس بأنها من بيوت الله ويقول (النور 36 – 37): “في بيوت إذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والأصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله”. وعلى أساس هذا النص القرآني، أوصى رسول الله محمد عليه السلام المؤمنين باحترام الكنائس والأديرة وعدم التعرض لها بسوء حتى في أيام الحرب، كما أوصى “بتحريم استخدام أي حجر من بناء كنيسة في بناء مسجد أو بيت للمسلمين”، وذلك تأكيداً لحرمتها (العهدة النبوية لبني نجران والتي قامت على أساسها العهدة العمرية لمسيحيي القدس).

ففي هذه البيوت، التي يقول القرآن الكريم عنها إنه “يرفع فيها اسم الله”، كيف يمنع رهبانها وقسيسوها من استعمال كلمة الله لرفع اسمه سبحانه وتعالى؟.

دعا القرآن الكريم المسلمين الى مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن. وليس بالطريقة الحسنة فقط. فهل إن من علامات الجدال بالتي هي أحسن الحكم بمنعهم من استعمال كلمة الله؟.

عندما وصف القرآن الكريم المسيحيين بأنهم “أقرب مودة للذين آمنوا (المائدة 69) انطلق في هذا الوصف من انهم يؤمنون بالله وملائكته واليوم الآخر ويعملون صالحاً. ولذلك أنهى الآية الكريمة بقوله: “فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون”. فهل ان الحكم الماليزي بمنعهم من استعمال كلمة “الله” يستجيب ما نص عليه القرآن الكريم من أنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟.

لو توقفت المحكمة الماليزية قليلاً أمام الاشارة الإلهية المباشرة التي وردت في (سورة المائدة 82) والتي تجعل مفتاح مودة المسيحيين للمسلمين “بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون” ربما اتخذت قراراً معاكساً. فمع ان الاسلام لا يقول بالرهبانية إلا أنه يشيد بالمسيحية لرهبانيتها وقسيسيها ويصفهم بعدم الاستكبار، أي بالتواضع… ومن ثم أساساً للمودة مع المؤمنين الآخرين.

يدعو القرآن الكريم (آل عمران 64) أهل الكتاب الى كلمة سواء… ولقد حدّد مفهوم كلمة السواء بقوله: “الا نعبد إلا الله”، فكيف تكون الدعوة الى كلمة سواء لعبادة الله الواحد وعدم الشرك به، مع منعهم حتى من استعمال كلمة الله؟.

لن أتوقف أمام ما يصدر عن جماعات الغلو (الذي نهى عنه الاسلام وحذر منه) من تكفير عشوائي ومن اعتداءات على الكرامة الانسانية ومن انتهاكات للحريات الدينية، فذلك موضوع آخر. ان هذه الجماعات تقوم على ثلاث “تاءات”: تكفير، تقتيل، تدمير”، خلافاً لمعنى السلام في الاسلام، وخلافاً للقاعدة الاسلامية العامة انه “لا إكراه في الدين” (البقرة 256)، و”فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” (الكهف 29)، وان الله وحده هو الذي يجزي ويعاقب، وانه ليس لأحد الحق أو السلطة في التفتيش في ضمائر الناس.

ولكنني أذكر فقط بالآية الكريمة (النساء 93) التي تقول: “ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً”. والمؤمن ليس المسلم فقط (السني والشيعي)، ولكن المؤمن هو كل من آمن بالله وملائكته وباليوم الآخر، اي المسيحي واليهودي. غير انني أتوقف فقط أمام حكم صدر عن محكمة محترمة، في دولة محترمة. وهو توقف لا أملك ما أذكّر به سوى قوله تعالى (الأنعام 54): “كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فانه غفور رحيم”.

انني أفترض ان الحكم الذي اصدرته المحكمة الماليزية كان سوءاً بجهالة. لذلك اتمنى ان تعود عنه وأن تصلحه. والله غفور رحيم.

محمد السماك