عندما يعود سعد رفيق الحريري إلى بيروت نكون قد عدنا جميعاً إلى ما قبل تلك الجريمة التي اقترفت بحقّ «الاعتدال الوطني» في لبنان وليس «الاعتدال السنيّ» بمعناه الضيق، فليس في الاسلام اعتدال وتطرف، لأن الإسلام شيء والتطرّف هو مذهب آخر مختلف، وصولاً إلى ديانة أخرى قديمة جديدة اسمها «الداعشيّة» التي لا تمت للاسلام بصلة.
ولأن من أخرج الحريري من الحكم والبلاد يُدرك جيداً مدى تأثير هذا الخروج على الشارع الذي جنح بعضه من الاعتدال نحو التطرف، عليه أن يُعيد حساباته جيداً، حتى لو لم يصل لدرجة يكاشف فيها الرأي العام بالحقيقة المرة، بأنه لولا إسقاط الحريري وكلّ المحاولات لأبلسة السنّة، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من غليان واحتقان، بدأ باغتيال الحريري الأب واستكمل بإخراج الحريري الابن ممثل الأغلبية السنيّة مروراً باغتيال اللواء الشهيد وسام الحسن وقبله وسام عيد ووليد عيدو وغيرهم، وصولاً إلى ضرب الاعتدال على نافوخه عبر اغتيال «محمد الاعتدال شطح».. حتى لو بقي القاتل في بعض الحالات مجهول الهوية، وأياً كانت هويته.. الجرائم التي وقعت تحمل في طياتها «يافطة» اغتيال الاعتدال.
والسؤال الذي يُطرح بقوة، «هل كان لأصوات النشاز في عبرا أو غيرها أن تخرج علينا تحت عناوين برّاقة تتحدث عن تهميش أهلّ السنّة ومصادرة قرارهم، وهل كان لأحد هذه الأصوات أن يُبشّرنا بضرورة رفع رايته على قصر الرئاسة لو لم يحصل ما حصل لحظة إسقاط الحريري، أي إسقاط 70 % من هذا المذهب؟ قطعاً لا..
إذاً، هناك فريق حاول الاستكبار وفشل، وتوهم أنه بإلغاء قرار فريق أساسي في الحياة السياسية يُمكن لهذه الحياة أن تستقيم، تماماً كما سبق أن حصل في العام 2005 عشيّة إخراج من نال 70% من التمثيل المسيحي.. ما يعني أنّ كلّ ما حصل من استفزازات وتعبئة، تقع مسؤوليته على من ساهم في تأجيج هذه الحال، من دون إغفال أي مسؤولية لأي طرف آخر أو طابور خامس أو مستفيد..
بات من الضروري أن تعترف كلّ القوى الفاعلة بالقول والممارسة أنّ الديمقراطيّة هي أثمن ما على هذه اليابسة، لكنّ حسن تطبيقها يحتاج إلى حياة ديمقراطية سليمة، والحياة السليمة تحتاج إلى كنف الدولة دون سواها، ما يعني عملياً، استحالة تطبيقها في ظلّ السلاح الخارج عن الإطار الدولتي المؤسساتي، ما يجعلنا نؤكد أن الحال اللبنانيّة كما هي عليه اليوم، وحتى تنضج الظروف المناسبة للتغيير الجذري، تحتاج إلى الحد الأدنى من التوافق، حتى لو على قاعدة ربط النزاع، لتسيير شؤون البلاد وشجونها في ظلّ التهديدات الداعشيّة المتجددة الوجه، لبلاد مكشوفة الجسد ومقطوعة الرأس.
اليوم قبل الغدّ، على هذه القوى إعادة قراءة الواقع اللبناني جيداً والاسراع في الرجوع إلى معالجة عمق المشكلة، أي الاتفاق السريع على فكفكة العقد الرئاسيّة التي من شأنها أن تُنتِج الرئيس التوافقي بأسرع وقت.
إنها فرصة ذهبية تعيد إلى الشعب اللبناني بعض الأمل، الذي بدأ بالتكاتف الوطني خلف المؤسسة العسكرية التي دفعت أغلى ما عندها من أبطال ذوداً عن كرامة لبنان، واستكمل بقطع الحريري لنفسه «وان واي تيكت» إلى مدينته بيروت التي تحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى.
آن الأوان لنعترف جميعاً أن لبنان ليس للشيعة وليس للسنة ولا للمسيحيين والدروز، لبنان لكلّ اللبنانيين والحريري اللبناني بمن وما يُمثّل، هو حاجة لبنانيّة وليس حاجة سنيّة ولا حاجة 14 آذارية.. وما ينطبق عليه ينطبق على أي رمز اعتدال تتم إزاحته بقوة الهيمنة، لا بالديمقراطية المتمثلة بصندوقة الانتخاب، الذي يحتاج بدوره إلى الجوّ السليم لإنتاج القانون الأسلم.
حتى ذلك التاريخ، على الجميع أن يتواضع لتغليب المصلحة اللبنانية الصافية على مصالحه الخاصة وتطلعاته والطموحات، والتي من الممكن أحياناً أن تكون محقّة.. من دون أن تكون متوفرة.. فرصة ذهبية علينا عدم هدرها، على الأقل كرمى لروح نور الجمل وداني حرب وداني خيرالله ورفاقهم الأبطال، الذين استشهدوا في سبيل الحفاظ على هذا اللبنان الفريد من نوعه.