النبأ السار، وقليلة هي الانباء السارة في لبنان والمنطقة، كان امس عودة الرئيس سعد الحريري الى دياره. وليس مبالغة في القول، ان لبنان كان مسافرا منذ كانون الثاني 2011 وعاد الى اهله، أي منذ ان قرر ولي الفقيه الايراني والحاكم السوري ان ينقلبا على اتفاق الدوحة ويُقصيا رئيس حكومة الوحدة الوطنية، ليس عن السرايا فحسب، بل عن البلاد أيضا. لكن ما حدث في لبنان والمنطقة منذ أكثر من ثلاثة اعوام ونصف العام غيّر الكثير من المعطيات، وأهمها ان وجه الاعتدال الذي جسّده الرئيس الحريري سيبقى أقوى من وجوه التطرف والظلامية والانقسام الطائفي والمذهبي الذي يكاد يدمّر العديد من اقطار المنطقة.
ليس تفصيلا عابرا ان تأتي عودة الرئيس الحريري حاملا الهدية القيّمة من الملك السعودي الى الجيش والقوى الامنية اللبنانية، تماما كما تفعل حمامة السلام التي تحمل غصن الزيتون بعد الطوفان. فالعودة الى الوطن جاءت عبر مشروع الدولة الذي أعاد الامل الى النفوس وسط تجربة عرسال الخطيرة. وهل هناك غير هذا المشروع الذي يحمي لبنان في منطقة تتعدد فيها المشاريع التي تعيدنا الى مجاهل التخلف، بدءا من مشروع الدولة الديكتاتورية في سوريا وانتهاء بدولة داعش في العراق والشام.
يعود الحريري وهو يكرر “الخطأ” الذي ارتكبه عام 2007 عندما رد على الامين العام لـ”حزب الله” القائل إنّ التصدي لـ”فتح الاسلام” بقيادة رجل مخابرات النظام السوري شاكر العبسي “خط أحمر”، فأكد الحريري ان لا خط أحمر غير سلطة الدولة وكرامة الجيش والقوى الامنية. فكان ان سقط خط نصر الله وانتصر خط الحريري. وتكرر “خطأ” الحريري بالأمس عندما أكد أن إسقاط الجيش في عرسال “خط أحمر” رداً على خطة إسقاط عرسال في قبضة الحرب السورية لتسقط معها حدود لبنان التي تفصله عن حريق الشرق الاوسط الكبير.
ثلاثة اجتمعوا امس في السرايا: الرئيس تمام سلام والحريري وروح رفيق الحريري التي لا تزال تنشر مظلة أمان فوق لبنان. في هذا اللقاء تنجلي صورة مفعمة بالامل بأن هذه البلاد قادرة على صنع أقدارها التي تقيها شرور الدمار.
اختبار عرسال الممزوج بالدماء والدموع أثبت ان بلدا صغيرا مثل لبنان هو كبير مقارنة بأقطار كبرى في المنطقة. فالحجم الجغرافي والديموغرافي ليس هو الاساس بل ان الاساس هو أمر واحد “الحرية”. فلولاها لكان لبنان مرتعا للاخضاع في صراع الاقليات التي يأكل الآن الكبير منها الصغير. لكن هذا البلد قلب المعادلة فجعل الاقليات الصغيرة قوية وكأنها أقليات كبيرة. ولهذا يعج لبنان اليوم بالفارين من جحيم الاضطهاد في الهلال الحزين. عودة لبنان الى الحريري هي عودة الروح الى جسد عانى الاحتضار وهو الآن بدأ يتنفس بحرية.