IMLebanon

عولمة الأمن

إذا كان جمهور واسع من المسلمين مأخوذاً بفكرة إعادة التاريخ إلى زمن “الدولة الإسلامية القوية” كما يتصورها أو يفترضها الخيال الشعبي، فإن حكومات الغرب تحرّض على ذلك وتحاول إشعار المسلمين بالدونية وتستدعيهم إلى منازلة غير متكافئة. هذا الصدام بين الإسلام والغرب ليس حدثاً طارئاً أو عابراً. هناك مشهد كاريكاتوري حين يحتشد الغرب الأطلسي والأوروبي في حلف عالمي ضد “داعش” ـ أو “دولة الإسلام” التي تتأسس اليوم على قطعة صغيرة من صحراء العرب. تنطوي أفكار “داعش” على كل مضامين “الإرهاب” وقد تنشر شظاياها في أربع رياح الأرض، لكنها بالمحصلة الفعلية جزيرة صغيرة في خضمّ هذا العالم الواسع. ولا نظن أن هذه المنظومة تحتاج إلى تحالف دولي لمواجهتها.

“داعش” ظاهرة خطيرة من تداعيات أزمات العالم المعاصر: أزمة العرب والمسلمين في انزوائهم عن التاريخ خلف حجب الاستبداد وثقافة إسلام سياسي تمّ إنتاجه على مدى قرن لتبرير مشروع “صراع الحضارات” وإعادة انتشار الغرب بمهمة مزدوجة “تدميرية إعمارية” وتمدينية عند الحاجة.

هذا الغرب الأطلسي الأوروبي الغربي يتجمّع ليس فقط ضد ظاهرة هي حقيقة من إفرازات التاريخ البربرية، ولكنه كذلك لتجديد أو استكمال المواجهة مع جزء مهم من العالم يطمح أن يكون شريكاً في صناعة نظام جديد قد لا يكون حاملاً لقيم انكسرت في القرن الماضي لكن لمصالح متنوعة تتكامل فتتراجع معها احتمالات الحروب وسباقات التسلح وما تلقيه على هذا الكوكب من أعباء ثقيلة تطاول البشرية جمعاء.

نود فعلاً محاصرة الحريق في هذا “الشرق الأوسط” بكل الأشكال والوسائل ولكننا لا نجد إلا سياسات دولية تستثمر على هذا الحريق خططاً جديدة للتوسع والاستنزاف وإدارة الفوضى.

ما يطاول الغرب حتى الآن من “الإرهاب” هو النزر اليسير، أو لنقل إنه يتأثر بالإرهاب في الكثير من مسار حياته الهادئة. لكن “الإرهاب المنظّم” الذي يصدّره الغرب ويرعاه أو يباركه كما في حالات عدة منها النموذج الإسرائيلي والحروب الأهلية التي يديرها وينظمها أحياناً أفظع من ذلك بكثير. فهل كان حصار العراق لعشر سنوات ومن ثم احتلاله وتدميره عملاً حضارياً مع ما خلّفه من مآسٍ وكوارث، أو إدارة الحرب السورية أو الليبية من الأمور الأقل أهمية قياساً لنموذج “داعش”؟

ما يجري الآن هو إعادة تشكيل العالم في سياق حرب دولية بدأت منذ ربع قرن، وما يُراد له أن يكون عوالم كما من قبل أولاً وثانياً وثالثاً، وأن تُحوَّر فيه المشكلات من تنافس على التقدم والتنمية المادية والبشرية إلى مراتب تبررها ثقافات وسلوكيات وأنماط تفكير. وفي عالم كهذا يتصدر “الأمن” بصفته الشبكة الناظمة المخترقة لكل الدول والقارات لينتهي عند قمة الهرم الدولي. فلسنا إذاً بصدد تصور دولي سياسي بقدر ما نحن أمام “عولمة أمنية” يتصدرها الحلف المزعوم ضد الإرهاب.

لذلك يُراد للإرهاب أن ينتشر ويتوسّع ليصبح ظاهرة كونية لا أن يكون دولة أو جغرافية. ويُراد للتحالف الدولي أن يوزع على الدول التابعة مهمات في جدول أعمال كهذا وأولويات كتلك. وخلافاً للتصورات التي راهنت على تراجع “العولمة العسكرية الأميركية” فإن “العولمة الأمنية” تطل برأسها مكشوفة في وفود الخبراء وأجهزة القيادة والأمن وبيع الأسلحة المتقدمة على هذا الصعيد.

ولعل شبكات “الإرهاب” التي جرى تنظيمها من قبل أو رعايتها مثل “القاعدة” هي على استعداد الآن لتقديم خدمات كبيرة لمشروع كهذا بادر إليه زعيم “القاعدة” في توسيع مهامه نحو شبه الجزيرة الهندية.