IMLebanon

عون والرئاسة: لا مكان للتراجع!

في عام ١٩٩٠، أقنع رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون نفسه وأنصاره بأن هزيمة ١٣ تشرين الأول انتصار لحق لبنان في المطالبة بالحرية والسيادة والاستقلال. في عام ٢٠٠٨، أقنعهم بأن الفوز بقانون انتخابات عادل (الستين) أهم من فوزه شخصياً برئاسة الجمهورية. هذه المرة، لا مكان لانتصارات مماثلة؛ لا شيء يبرر تراجع الجنرال

منذ عودته عام 2005، لم يكمل رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون معركة حتى نهايتها. في كل مرة كان يجد مخرجاً يجنّبه الاصطدام بالحائط، حتى لو كان متصدعاً واحتمال تهدمه كبيراً: من ملف المقابر الجماعية، إلى أجراس كنائس الجبل وصندوق المهجرين والسلاح الفلسطيني وتأليف الحكومات وقوانين الانتخاب وصندوق الكازينو والمدراء العامين الفاسدين وسهيل بوجي ومحمد الحوت وعبد المنعم يوسف و«الإبراء المستحيل» والمجلس الدستوري وصلاحيات رئيس الجمهورية وشربل نحاس وسلسلة الرتب والرواتب وغيرها. مع ذلك، حافظ الجنرال على صدقيته في نظر كثيرين: قيل إنه يحاول، على الأقلّ. وفي سياق محاولته الفوز بأكثرية نيابية، سقطت شعارات كانت أساس الحالة العونية: أولوية الفوز في الانتخابات النيابية، ولو عبر جيلبرت زوين ويوسف الخليل، وضعت حداً لشعار محاربة الإقطاع العائلي، فيما وضع «ذكاء الوزير جبران باسيل ونباهته الاستثنائية» حداً للاشمئزاز العوني من التوريث السياسي.

ولم يلبث نادي المرشحين العونيين المحتملين إلى الانتخابات النيابية أن أسقط شعار محاربة المال السياسي. حتى المطالبة العونية بفصل ما هو دينيّ عمّا هو سياسي تلاشت مع استقالة بطريرك وانتخاب آخر. وبرغم كل ذلك، لم يسحب كثيرون ثقتهم بالجنرال. ليس لاقتناعهم بأن خفض الوزير باسيل فاتورة الهاتف ووجود غابي ليون (مثلاً) في وزارة الثقافة يستحقان التضحية بكل ما سبق. كان السرّ في مكان آخر.

كان يمكن عون، ساعة يشاء، أن يخلع بذلة رئيس التكتل الرسمية، ليستوحي من زنّاره عبارات «شعبيّة». ها قد ذهبت «سكرة» سمير جعجع بالنازحين السوريين وحملة فريقه السياسي على تحذير باسيل من عدم معالجة أزمتهم على نحو مدروس، وأتت «الفكرة»: لا شيء أسهل من إطلاق الشعارات الغرائزية. فضّل عون الانتقال من ترداد ما يطلبه الجمهور إلى رجل دولة يرفض عزل فريق، وتمادي فريق آخر في التفرد بالحكم. أوجد، في زمن الخواء المسيحي، قضية إعادة التوازن إلى السلطة. ضحّى بالثوابت التي أبرزته. هو كان قادراً على خسارة نائب في كسروان وآخر في جبيل وثالث في جزين ليربح مبدأ محاربة الإقطاع السياسي والمالي والخدماتي، إلا أن ذلك كان سيضعف تكتله، وبالتالي قوته، في حربه لاستعادة التوازن. بين تمسّكه بمحاربة الاقطاع والمال السياسي، وتأسيس حزب ديمقراطي وإعادة التوازن إلى السلطة، فضّل الجنرال إعادة التوازن. عمل في السنوات التسع الماضية كل ما من شأنه تثبيت مطالبته، تشريعياً وإحصائياً وقانونياً، بوجوب إعادة التوازن إلى السلطة. وها هو اليوم يقول: بعدما أمّنت عبر قانون الستين الحد الأدنى من التمثيل النيابي الصحيح الذي لا يمكن هدمه مجدداً، وصححت «التمثيل الوزاري المسيحي»، أنا الرئيس القادر على إتمام مشروع إعادة التوازن على نحو كامل وحقيقيّ إلى السلطة.

ثمة من يريد

للمسيحيين أن يظهروا في الدولة بمظهر الفريق الكاريكاتوري

في حسابات عون، لا علاقة مباشرة للنفط، أو التقارب الإيراني ــــ السعودي، أو علاقته الشخصية بالرئيس سعد الحريري، أو حتى تحالفه مع حزب الله بانتخابه رئيساً. كل هذه قيم مضافة إلى قوته الحقيقية المتمثلة في قدرته، وحده، على تكريس مبدأ لا غالب ولا مغلوب في لبنان عبر إعادة التوازن إلى السلطة. فالطائفة الشيعية تشعر، في الحسابات العونية، بتفوق الطائفة السنية عليها في موازين الحكم، بحكم ابتلاع الأخيرة جزءاً كبيراً من نفوذ الطوائف المسيحية. والحل الأسهل، بالتالي، لمعالجة هذه الأزمة يكمن في إعادة كل فريق (طائفة) إلى حجمه الطبيعي. هذا وحده وفر الاستقرار الطويل الأمد الذي تتطلع الدول الغربية إليه. ولا أحد غير عون قادر على إنجاز هذه التسوية.

لا تعني إعادة التوازن لرئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع شيئاً، ولا ــــ مع الأسف ـــــ للبطريركية المارونية أو النائب سامي الجميل أو غيرهم، لكنها تعني الكثير في الغرف الرهبانية الجدية المطلعة على هول الاختلال القائم في التوازن وكل تداعياته، وفي الصالونات السياسية المعنية بالحفاظ على التجربة اللبنانية، وهي كانت، ولا تزال، تعني الكثير لكل من رفض اتفاق الطائف لضربه التوازن، وقاطع انتخابات 1992 النيابية. وأثبتت انتخابات عامي 2005 و2009، وكل استطلاعات الرأي التي سبقت تأجيل انتخابات 2013، أن الرأي العام المسيحي لا يرى أولوية تتقدم على إعادة التوازن. هضمت أكثرية الناخبين المسيحيين التحالف العوني مع حزب الله لاستعادة هذا التوازن، لا لأي شيء آخر. غلبت غريزتها المناهضة للنظام السوري لاستعادة هذا التوازن. تبنّت الوزير جبران باسيل برغم صعوبة هضمه شعبياً لتكريس أحد وجوه هذا التوازن: لا يحق لأحد أن يملي على الزعيم المسيحي أسماء وزرائه.

ثمة من يريد للمسيحيين أن يظهروا في الدولة بمظهر الفريق الكاريكاتوري عبر تسويق بعض المرشحين؛ بعض هؤلاء في مواقع كنسية وسياسية وإعلامية واقتصادية نافذة. وهناك من يريد لهم استعادة هيبتهم وجديتهم ويطمئنهم إلى وجودهم في الدولة؛ ووسط هؤلاء أيضاً من هم نافذون في مواقع كنسية وسياسية وإعلامية واقتصادية نافذة. وليس عون وحيداً في هذا المعترك. كل من أيدوا القانون الأرثوذكسي تمسكاً منهم بتصحيح التوازن المذهبي في الحكم هم فعلياً معه، حتى لو آثروا اليوم الصمت والمراقبة، على غراره. بحكم الفيتو الشيعيّ، لا حظوظ رئاسية لجعجع وللرئيس أمين الجميل وللنائب بطرس حرب. وبناءً عليه، فالمقارنة الحقيقية المحتدمة اليوم هي بين عون و… النائب روبير غانم. عون وقائد الجيش جان قهوجي. يمكن تخيلهما دائماً في مناظرة تلفزيونية واحدة. عون وأحد الوزيرين السابقين زياد بارود ووديع الخازن. عون ومن يملأون كراسي الصرح البطريركيّ فيما هم يعجزون عن الفوز بكرسي واحد في مجالس قراهم البلدية.

هذه ليست مسابقة جمال ولا أهواء ولا صراع على النفوذ بين عون وجعجع وغيرهما. هي جزء من معركة بدأت عام 2005، عنوانها: إعادة التوازن إلى السلطة. ثمة أمل كبير بتقاطع مصلحة عون وقضية مجتمعه المستجدة مع توجهات المجتمع الدولي لفرض استقرار لبناني وفق مبدأ لا غالب ولا مغلوب.

إقرار القانون الأرثوذكسي، والتسليم بحق المرجعية المسيحية بتسمية أهم المواقع المسيحية في الإدارة، على غرار المرجعيتين السنية والشيعية، واحترام تمثيلها النيابي في توزيع الحقائب الوزارية، لا تكفي أبداً لمقايضة عون على «حقه في الرئاسة». ثمة رمزية شخصية هنا لميشال عون. ما كان يمكن الطلب من بشارة الخوري تزكية أحد المرشحين إلى رئاسة الجمهورية عام 1943: كان الاستقلال (البريطاني عن فرنسا) قضيته. وما كان يمكن الطلب من بشير الجميل أن يزكي لدى الدبابات الاسرائيلية مرشحاً غيره لرئاسة الجمهورية: كان التحالف مع إسرائيل قضيته. ولا يمكن الطلب من ميشال عون أن يزكي مرشحاً غيره لرئاسة الجمهورية: إعادة التوازن إلى السلطة مشروعه. وما على المطالبين برئيس غيره، سوى مصارحة الجمهور برفضهم إعادة التوازن المذهبي إلى النظام القائم.