IMLebanon

غبطة البطريرك… لا تشهد بالزور

السذاجة ممنوعة في السياسة. وزيارة بطرك الموارنة اللبناني إلى «اسرائيل»، في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ المنطقة العربيّة، والصراع مع العدوّ، لا يمكن أن تكون محض «دينيّة» و«رعويّة». حتّى لو أرادها الصرح البطريركي كذلك، بكل صدق، فهذا غير ممكن. زيارة «برفقة» بابا الفاتيكان، أو «لاستقباله» (استقباله في الارض التي لم تعد لنا؟)، لا نجد كلمات لتوصيفها سوى بالخطأ الفظيع الذي سيحفظه كتاب التاريخ بالأحمر القاني. بل ستكون «خطوة انتحاريّة» قد يصعب تداركها مستقبلاً.

إن تلك المبادرة، المفاجئة من شخصيّة وطنيّة مثل الكاردينال بشارة الراعي، أيّاً كانت التزاماته الروحيّة وواجباته الكنسيّة، قد تكون لها عواقب خطيرة على الوحدة الوطنيّة، وانعكاسات سلبيّة، ليس فقط على فئة من صميم الشعب اللبناني حملت مشعل الوطنيّة والعروبة والتنوير والنهضة والمقاومة منذ قرون، بل أيضاً على مسيحيي الشرق بشكل عام. نظراً للمنصب الروحي الأرفع الذي يتحلّى به الكاردينال الراعي في المشرق العربي، ولموقع مسيحيي لبنان المحوري، من الصراعات الدائرة في المنطقة.

يتعرّض «مسيحيّو الشرق» اليوم لكل أشكال الضغوط والابتزازات والمذابح. كل العذر على استعمال هذا التصنيف الاستعماري الذي غذّته أزمنة الانحطاط والمذهبيّة. يراد للمسيحيين اليوم، بعد أن تمّ فرزهم، أن يكونوا كبش فداء.

يراد لهم أن يكونوا رأس الحربة في مخطط تفتيتي وتطبيعي جديد تخوضه اسرائيل بمساعدة حلفائها ورعاتها، لكسر عزلتها الحضاريّة والسياسيّة، وتجاوز عجزها العسكري أمام ارادة الشعوب. ولا يمكن للزيارة البطريركيّة، إلا أن تدرج في هذا السياق! يعرف غبطة البطريرك حتماً الحملات التي تخاض لتوريط مسيحيي فلسطين بالانخراط في جيش العدو، وتساهم فيها أقليّة بينها رجال دين مثل جبرائيل ندّاف. سمع غبطته بلا شك بقوانين التمييز الطائفي بين الفلسطينيين ـــ مسيحيين ومسلمين ـــ التي باشرت بتطبيقها سلطات الاحتلال، بغية تفتيت الوحدة الوطنية، والمضي في عزل المسيحيين، وتدجين من لا يزال، داخل الخط الأخضر، يقاوم الاقتلاع وطمس الهويّة واغتصاب الحقوق. ولعلّ غبطته يربط بين المكر الدموي الاستيطاني لسياسات اسرائيل، وبين انفلات الهمجيّات التكفيريّة التي أخرجها الربيع العربي المجهض من مجارير التاريخ، وغذتها تيوقراطيّات النفط بمباركة الغرب حامي إسرائيل، لتلتهم آخر أمل للعرب بالتقدّم والحريّة. وكان أبناء الطوائف المسيحيّة أيضاً في طليعة ضحاياها.

الراعي من القيادات الروحيّة الأساسيّة في لبنان. وفي بلد يتداخل فيه الديني والسياسي بهذا الشكل، لا يمكن اعتباره مجرّد رجل دين يحجّ إلى بيت المقدس. إنّه يمثّل موقفاً وطنيّاً، ومصالح جماعة أساسيّة في الوطن، وخطاباً سياسيّاً يُلزم الكثيرين داخل طائفته وخارجها. وحين يمضي بشارة الراعي إلى «إسرائيل»، بمعرفة سلطات الاحتلال وموافقتها، يرتكب سابقة خطيرة لم يسبقه إليها أي من نزلاء بكركي منذ الاستقلال: إنّه يؤنسن العدوّ، ويكسر المحظور فاتحاً الباب أمام كل المؤمنين التواقين إلى زيارة الأماكن المقدسة. متى تبدأ الرحلات المنظمة بحماية تساهال، وبرعاية الشركات الاسرائيليّة التي تحاول تسريب منتجاتها ومصنوعاتها إلى لبنان منذ سنوات؟ ماذا لو استعدنا ذكريات كاوية تعود إلى زمن ليس بالبعيد، كان فيها بعض اللبنانيين يتدرّبون في اسرائيل ويتحالفون معها «لحماية المسيحيين»؟ من قال إن تلك الجراح في الوجدان الوطني التأمت؟ وهل من الحكمة أن يخاطر زعيم روحي في تأجيجها؟ لا شكّ في أن الراعي سيلتقي هناك جنود لحد، خراف رعيّته الضالة الذين تعاملوا مع الاحتلال. هل يذكّرنا هذا الدرس شيئاً؟ البحث عن حل انساني ووطني لمأساة افراد لبنانيين غررت بهم اسرائيل قبل أن تتركهم يتخثرون في قاع ضميرها النتن، لا يتطلّب الذهاب للانحناء أمام قتلتنا منذ ٦٦ عاماً.

كيف بوسعنا أن نعزل الزيارة عن واقع لبناني تحاول اسرائيل اختراقه؟ كيف سنناقش السينمائي اللبناني الذي يصرّ على أنّه فعل عين الصواب حين أقام أشهراً في تل أبيب لتصوير فيلمه «الوطني»؟ سيقول لنا: «ألم تروا غبطة البطريرك؟ هو ذهب باسم الدين، وأنا باسم الفن… كلانا لا دخل له في السياسة»! كلّه سياسة يا أبونا، وباسم السياسة ندعوك الى العودة عن قرارك. سيسمح لك البابا فرانسيس بذلك، فهو لا يريد أن يحمّل شعبك أوزاراً إضافيّة! للحبر الأعظم مهمّاته الرسوليّة، وأجندته السياسيّة في اسرائيل. فهو سيلتقي بيريز ونتنياهو، ويقف عند حائط المبكى، ويزور قبر بن غوريون. وانت من الرموز الكبرى في بلد حطّمت مقاومته غطرسة اسرائيل. فلا تساعد ذلك الوحش السبارطي على طعن المقاومة عبر شخصك السامي. هل تدخل القدس فيما المطران إيلاريون كبوجي منفيّ عنها، ممنوع من دخولها؟ أنت ذاهب إلى «اسرائيل» لا إلى فلسطين. ومتى؟ يوم ٢٥ أيّار/ مايو، ذكرى التحرير الجنوب اللبناني. يا للمصادفة التاريخيّة العجيبة.

غبطة الكاردينال. نستعطفك ألا تتركنا وحدنا. ألا تنتحر بنا. ألا تشهد بالزور، ولو بشكل غير مباشر، لصالح قاتل أبنائك. الرعيّة التي انتظرت بطركها عقوداً في فلسطين، بوسعها أن تنتظر بعض الوقت الاضافي ريثما تدقّ ساعة التحرير. عندها سنذهب معاً ونصلّي في القدس المحرّرة. وسنقتفي في جبل الزيتون أثر عيسى الناصري الذي مات ليشهد للحق.