ما زالت غزة تتلوى في مواجعها وآلامها، وتعيش ملحمة الجهاد الإستشهادي منذ ما يناهز الثمانية عشر يوما حافلا بأفظع وأقسى مشاهد الموت والدمار، ومجازر الإرهاب الصهيوني الذي وصل إلى أقصى درجات الإجرام والإبادة الجماعية.
تجاه ما يصل إلى أسماعنا وأنظارنا بصدد حرب الإبادة المستمرة، يمكن استخلاص جملـة من الملاحظات المتراوحة بين إيجابيات مستجدة، وسلبيات متراكمة.
منذ بضعة أيام فقط، بدأ العالم العربي يشهد بعض التحرك المحدود والخجول، نصرة لغزة، واستنكارا واستهجانا لحالة الهدوء والإستكانة التي تواجه بها الدول العربية مجازر إسرائيل المستمرة على امتداد الأرض العربية الغزاوية التي تتعرض لعدوان همجي غير مسبوق.
ولا يفوق هذا الواقع المؤسف إستغرابا ومدعاة للتساؤل، إلا ذلك الهدوء والتجاهل المستغربان اللذان لاقت بهما الشعوب العربية العدوان على غزة، خاصة بعد حجم المجازر البربرية التي طاولت الغزاويين، وحجم الخراب والدمار الذي أصابهم من خلال الحرب الطاغية التي تشن عليهم والمستمرة بزخم إجرامي منذ ما يناهـز الثلاثة أسابيع دونما مراعاة لأدنى القواعد الإنسانية والأخلاقية والقوانين الدولية، ولجميع المبادئ السائدة بين المتحضرين من البشر على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
ولئن كان هذا الأمر غير جائز بالمقاييس كافة، على مستوى الضمير الوطني والقومي، ومستوى الإيمان والقناعة الوطنية التي ترسخت في ضمائر الأجيال العربية المتعاقبة منذ نشوء نكبة فلسطين.
ولئن كان هذا الواقع المؤسف قد أعطى بعض المؤشرات السلبية التي يمسك بها البعض ليدلل على أن بعض التحولات قد استجدت لدى الشعوب العربية الى هذه الدرجة التي لم تحرك فيها ساكنا أمام هول ما يحصل، إلا القليل القليل.
ولئن كان هذا الواقع يؤشر على أن هناك تغييرا ما في بعض المواقـع والقناعات العامة، قد داخل الدول والأنظمة العربية، وصل بها في وقت من الأوقات إلى حدود توقيع صلح مع اسرائيل، كما حصل في مصر والأردن، حيث وقع كل منهما على «اتفاقية سلام «، فضلا عن عمليات تطبيع ما بين اسرائيل وبعض البلدان العربية حصلت في السرّ والعلن.
ولئن كانت السلطة الفلسطينية نفسها قد وقعت جملة من الإتفاقيات مع الكيان الصهيوني، كانت مدارا لخلافات شديدة مع جزء هام من الشعب الفلسطيني، تجسد لاحقا بشكل منظم بحركة حماس وجملة من التنظيمات الأخرى المقاومة والمصرة على الإستمرار في نهج الكفاح المسلح، وصولا في ذلك إلى حد انفصال غزة عن الضفة الغربية، مما قسم فلسطين شطـرين متناهضين، كـل منهما له نهجه وقناعاته وأداؤه الوطني والسياسي الخاص به، حتى إذا ما حصل لاحقا ونتيجة لمساع حثيثة فلسطينية وعربية ما يشبه المعجزة، فتوحد الفريقان في حكومة واحدة تضم إليها ممثلين عن كل منهما، جاءت أحداث غزة الأخيرة لتثبت مدى هشاشة هذه المصالحة التي حصلت، ومدى صعوبة تلاقي خطين سياسيين ونضاليين لم يجمع بينهما في واقع الأمر إلاّ بعض التوجهات العامة وبعض الخطوط العريضة.
ولئن كان هناك من مأخذ على الأحداث التي اندلعت على هذه الشدة والحدة، في ظروف يجد البعض بأنها ملتبسة، وتكاد أن تكون مفتعلة ومحرض عليها من طرف إقليمي يعد لها ويدفع باتجاهها، تحقيقا لمخططاته التي لا يهدف من خلالها الى تحقيق المصلحة الفلسطينية والعربية بقدر ما هو يهدف إلى تحقيق غاياته ومخططاته على مدى المنطقة العربية بأسرها.
ولئـن كان البعض يجد أن البلاد العربية كافة، منشغلة بهمومها الداخلية التي ما زالت مشاكلها وإشكالاتها ومخاطرها تعبث بالأمن الوطني لكل منها وتهدد وجودها ومصيرها بأفدح الأخطار، ويتساءل هؤلاء عما تستطيعه تلك البلدان الغارقة في حروب ونزاعات داخلية وصلت إلى حد اتهمت به مصر… قلب العروبة الحقيقي ومجالها الحيوي والقومي الرئيسي، جماعة الأخوان المسلمين وصولا من خلالهم إلى حركة حماس نفسها، بأنها متورطة بجملة من المواقف والأعمال العدائية المسلحة طاولت من خلالها الساحة المصرية.
ولئن كان كل ما هو قائم وما هو حاصل على الأرض قد أوحى بأن تغييرات ما قد استحدثت تدريجيا وعلى مدى جملة من السنوات والممارسات والتطورات التي غيرت في الأولويات لدى كثير من الدول والأنظمة والشعوب العربية.
لئن كان ذلك كله حاصلا فعلا، بحكم مرور الزمن، وتقاعس الحكام والأنظمة، وتعدد الهزائم والتراجعات والإنكفاءات، وشيوع المتاجرات بقضية فلسطين، قضية العرب الأولى، وبجملة من القضايا التي تليها وتجيء في مراتب لاحقة من الرتبة والأهمية.
لئن كان ذلك كله حاصلا فعلا، فهو قطعا غير جائز ويقتضي ألا يكون، وإن التغاضي عما هو حاصل في غزة هو أمر مرفوض ومعيب ، وبالتالي يقتضي أن تصحح وتصوب هذه الاوضاع المخزية من خلال بحث جدي وعميق، يدلنا على حقيقة رئيسية يقتضي ألا ننساها على الإطلاق، وهي أن إنشاء اسرائيل لم يستهدف الشعب الفلسطيني المنكوب وحده، بل هي قد أنشئت مع الأخذ بالإعتبار أنها سكين جاهز للإستعمال في أي وقت مناسب للتآمر على أهل هذه المنطقة الخاضعة لأطماع الكثيرين وفي طليعتهم اسرائيل، التي ترى في الوطن العربي كله مجالا واسعا لأطماعها في الأرض العربية والثروة النفطية والسوق الإقتصادية، ويقتضي ألا نتجاهل على الإطلاق أن اسرائيل، ما زالت حتى اليوم تدون شعارها المشهور على مدخل الكنيست الإسرائيلي : من الفرات إلى النيل، أرضك يا إسرائيل.
ما هو حاصل يقتضي ان يدفع بالعرب جميعا إلى طي كل صفحة سوداء، أوجدتها الظروف المختلقة والمشبوهة فيما بينهم، ورص صفوفهم، والتوجه بأنظارهم واهتماماتهم ودعمهم المعنوي والمادي وإظهار رفضهم الصارم لكل المجازر الحاصلة ولجميع أعمال الإبادة الجماعية التي تطاول غزة وأهلها
ولا يعني ذلك، أن نعمد الآن، وفي هذه الظروف العامة غير الملائمة التي تنشغل فيها دولنا وشعوبنا بأخطارها وتحدياتها الداخلية والخارجية ، بما يمكن أن يهدد وجودها ووحدة أراضيها وتقسيمها إلى دويلات لا حول لها ولا قدرة، وبالتالي، فإن الحكمة والواقعية توجب، أن لا نلقي بأنفسنا في تهلكة الإنخراط في حروب لم نهيئ لها أنفسنا ولم تتهيأ لنا ظروفها الملائمة، أقله، نريد أن نؤكد وأن نتأكد، من أن فلسطين، ما زالت في الوجدان العربي، حية لا تموت، خشية من ألا تنبت لنا مع الأيام فلسطين جديدة نضيع فيها أرضا جديدة، تخلق لمصيرنا المستجد أعداء آخرين بقوالب جديدة، وليس ما نذهب إليه من قبيل المواقف الرومانطيكية، إنها المصلحة العربية، القومية والوطنية التي يرتبط بها حماية الوجود العربي والكرامة العربية.