IMLebanon

غزة، مصر، والفرص المتاحة

كان للحرب في غزة تأثير أبعد من القتل والدمار الذي حلّ بغزة وأهلها، فأثّر الصراع في دينامية العلاقات الإقليمية. أخفقت مصر، في أول المطاف، في التوسط في الصراع، ولكن تعود القاهرة الآن إلى لعب دور العاصمة المحورية لحل النزاعات الفلسطينية – الإسرائيلية، بدعم من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والأردن. باءت محاولات قطر وتركيا لتحل محل مصر كوسطاء، بالفشل. وعلى رغم الجهود الحثيثة للوزير جون كيري، أثبتت الولايات المتحدة أنها غير قادرة على كبح جماح إسرائيل، ولا على التوسط في الصراع مع طرف – أي حركة «حماس» – التي ترفض الاعتراف بها. أشادت إيران بالقدرة القتالية لـ «حماس»، ولكن لم تجد سبيلاً لإعادة نفوذها كما كان سابقاً مع «حماس». إذا نجحت مصر في تحويل وقف إطلاق النار الموقت إلى تسوية دائمة لأزمة غزة، تكون قد أحرزت إنجازاً سياسياً وأمنياً، وأثبتت عودتها إلى حلبة النفوذ الإقليمي.

أمّا بالنسبة إلى «حماس» وقطاع غزة، فالوضع القائم في عام 2014 يختلف كثيرًا عمّا كان عليه في الماضي القريب. ففي عام 2010، كانت لدى «حماس» مجموعة قوية من الحلفاء تشمل إيران وسورية و «حزب الله» وتركيا وقطر. وفي عام 2012، أمسكت المنظمة الأم، أي «الإخوان المسلمين»، السلطة في مصر. ولكن بحلول عام 2014، أصبحت «حماس» في عزلة عميقة، فقد تمت إطاحة نظام «الإخوان» في مصر، وقطعت كلّ من إيران وسورية و «حزب الله» العلاقات مع «حماس» بعد أن دعمت هذه الأخيرة المعارضة السورية ضدّ نظام بشار الأسد. إلى ذلك، تعرضت رهانات أردوغان على جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر وسورية لفشل ذريع، كما واجه أردوغان موجةً من الاحتجاجات وفضائح الفساد في تركيا. وتنازل أمير قطر حمد بن خليفة عن الحكم لمصلحة ابنه، كما تعرّضت قطر لضغط شديد من دول مجلس التعاون الخليجي بسبب السياسات التي تتبعها في المنطقة. وفي أعقاب كلّ ذلك، وجدت «حماس» نفسها في ظروف صعبة، عاجزةً حتى عن دفع رواتب موظفي القطاع في غزة.

إلا أنّ «حماس» لم تتوقف عن الاستثمار في مجال التدريب والاستعداد العسكري، وقرّرت اللجوء إلى الخيار العسكري كوسيلة للخروج من عزلتها. وعلى رغم الخلل في توازن القوة بينها وبين إسرائيل، والدمار الكبير، وعدد الضحايا الذي يُسجَّل في فلسطين، نجحت «حماس»، على غرار «حزب الله» في عام 2006، في مواصلة إطلاق الصواريخ والقتال خلال كامل فترة الصراع. والجدير ذكره أنّ الصواريخ التي تطلقها «حماس» – مع أنّ نظام «القبة الحديد» الإسرائيلي المضاد للصواريخ يعترض معظمها – تتميّز بمدى أكبر من تلك التي أطلقها «حزب الله» في عام 2006، وقد نجحت في خلق بلبلة واسعة في مختلف مناطق إسرائيل والتسبّب بإغلاق مطارها الدولي. وعلى غرار ما حصل مع «حزب الله» في عام 2006، قد تعزّز «حماس» موقعها على الساحة السياسية عند انتهاء هذا الصراع.

حاول حلفاء «حماس»، وبالأخص تركيا وقطر، أن يستعيدا دورهما السياسي خلال الأزمة. كان رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان يبحث، بعد فوزه المدوّي في الانتخابات المحلية، عن استعادة الدور الإقليمي لتركيا. وكان الأمير تميم قد استقر في منصبه الجديد على رأس دولة قطر، وبات يبحث هو أيضاً عن سبيل لإحياء دور الدوحة في السياسة الإقليمية. توجّه كلّ من الرئيس الفلسطيني محمود عباس ووزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى قادة تركيا وقطر في الأسابيع الأخيرة للمساعدة في الوساطة مع «حماس». إلا أن تركيا وقطر ليستا في موقع يمكنهما من حل الأزمة من دون قبول وتعاون مصري. فهما لا تتمتّعان بقرب مصر الجغرافي إلى قطاع غزة، وقد فقدتا الصدقية التي كانت لديهما في السابق مع الدولتين المجاورتين لغزة، وهما إسرائيل ومصر.

تجد مصر نفسها، مرة أخرى، في مقعد القيادة. إلا أن القاهرة لا تملك الأدوات السياسية والديبلوماسية التي كانت لديها في الأزمات السابقة في غزة. في أزمة كانون الأول (ديسمبر) – كانون الثاني (يناير) 2008 – 2009، كانت لنظام حسني مبارك علاقات استخباراتية قوية مع «حماس» من خلال اللواء عمر سليمان، وتم استخدامها للمساعدة في التوسط لوقف إطلاق النار. في عام 2012، كان الرئيس محمد مرسي و «الإخوان المسلمون» يتمتعون بعلاقات قوية جداً مع «حماس» ولعبت القاهرة دوراً كبيراً في إيجاد المخرج من الأزمة. أما اليوم، فالقاهرة تعتبر «الإخوان» و «حماس» منظمات إرهابية، فهل تستطيع أن تلعب دور الوسيط الفاعل؟ قد تعطي الأيام المقبلة إجابة عن هذا السؤال.

في كل الأحوال لا شك في أن الأزمة الراهنة تقدم فرصة لمصر لإعادة بناء دورها الإقليمي. أدت أزمة حصار غزة إلى ثلاث حروب في السنوات القليلة الماضية. وزعزعت أيضاً أجزاء كبيرة من سيناء المصرية. إذا استطاعت مصر أن تلعب دوراً محورياً في إيجاد حل دائم لأزمة غزة، فهذا سيجلب ليس فقط الإغاثة إلى سكان غزة، وأمل الاستقرار والأمن إلى سيناء، ولكن سيكون أيضاً مؤشراً إلى عودة مصر إلى لعب دور مهم في المنطقة.

تبدو مطالب إسرائيل و «حماس» متناقضة كلياً وعصيّة على أي حل وسط. يسعى الوفد الفلسطيني إلى إنهاء الحصار الإسرائيلي، بينما تطالب إسرائيل بنزع سلاح «حماس». ولا شك في أن الوسيط المصري في موقع لا يحسد عليه. فهو يحتاج إلى الخروج بخطة لرفع الحصار عن غزة، ولكن في ظل ترتيبات أمنية ترضي الطرفين.

قد يكون السبيل الوحيد للتقدم هو بالتعويل على حكومة الوحدة التي تم تشكيلها أخيراً بين «حماس» و «فتح»، وإيجاد صيغة لعودة السلطة الفلسطينية إلى غزة، ورفع الحصار تحت إشراف مشترك لمصر والسلطة الفلسطينية مع مشاركة وضمانات دولية. تستطيع «حماس» أن تدعي آنذاك أنها نجحت في رفع الحصار، وتكون مصر حققت إنجازات عدة في رفع الحصار، والتقدم في إعادة الأمن والاستقرار إلى سيناء والمناطق الحدودية، والمساعدة على إعادة بناء الوحدة الوطنية الفلسطينية.

وفي سيناريو كهذا تكون مصر أيضاً البوابة لحصول قطاع غزة، تحت إشراف حكومة الوحدة الفلسطينية، على مساعدات دول الخليج العربي في إعادة بناء ما تم تدميره. وقد يكون من الحكمة، إذا تقدمت مصر في الحل، أن تمنح قطر وتركيا أدواراً مشاركة لكي تعيدهما إلى «الصف العربي» وتكسبهما مجدداً كأصدقاء لا أخصاماً لمصر.

قد يكون سيناريو الحل المصري خيالياً وغير واقعي. فمواقف إسرائيل وشروطها قاسية جداً ومستوى الثقة بين «حماس» والقاهرة متدنٍّ ومستوى رغبة النظام في القاهرة وقدرته على لعب دور فاعل في قضية غزة ورأب الصدع بين «حماس» و «فتح» أمر فيه كثير من الشك. إلا أن الأزمة الراهنة في غزة تقدم فرصة لرفع الحصار عن القطاع، وللعمل على إعادة بناء اللحمة الفلسطينية، ولبناء الاستقرار في سيناء والمناطق الحدودية.

وفي حال فشلت المحاولات السياسية، فقد تكون إيران في نهاية المطاف المستفيد الأكبر. لا تزال العلاقات بين «حماس» وإيران، منذ اندلاع الثورة السورية، باردة. إلا أنّ «حماس» اعتمدت أساساً على معدات وتدريبات إيرانية في مجال تصنيع الصواريخ، واستفادت من تجربة «حزب الله» في حرب 2006 في تطوير استراتيجيتها في مواجهة إسرائيل. فإذا فشلت الجهود العربية، لا بل المصرية، في إيجاد مخرج سياسي للأزمة ورفع الحصار عن أهالي غزة، فقد لا تجد «حماس» بديلاً عن الخيار العسكري، ولا تجد إلا إيران و «حزب الله» حلفاء فعليين لها. وتكون إيران بذلك قد نجحت في إعادة بناء نفوذها على الحدود المصرية وإعادة ترميم «جبهة الممانعة» التي فقدت كثيراً من صدقيتها ومواقعها في السنوات القليلة الماضية.