IMLebanon

غزة التي في بالنا… وإسرائيل التي في بالهم

جاء اليوم الذي يصف فيه الإعلام الغربي ما تقترفه إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني بـ «الإبادة» و «العقاب الجماعي» و «السقوط الأخلاقي» وغير ذلك مما بُحّت بترداده حناجرنا ومنابرنا الخطابية والإعلامية لعقود كاملة بلا طائل.

جاء اليوم الذي نشهد فيه على «لوائح عار» تنشرها صحيفة إسرائيلية (هآرتس) وزلة لسان «محرجة» لوزير خارجية أميركي وتخبط دولي حيال ما اعتبر حتى أمس قريب دفاعاً مشروعاً عن النفس.

وصحيح أنها ليست المرة الأولى التي تجد فيها القضية الفلسطينية مؤيدين في الشارع الغربي، لا سيما في أوساط اليسار الأوروبي وحركات مناهضة العولمة في أميركا، إلا أنها تبقى سابقة حقيقية لجهة اصطفاف إعلاميين وسياسيين وناشطين ونجوم سينما وصانعي قرار ورأي عام غربي، ضد إسرائيل وفي شكل علني وصريح، مع ما يعنيه ذلك من تكلفة مرتفعة عليهم كأفراد. فاللحظة المشابهة القريبة نسبياً، والتي يمكن مقارنتها بما يجري اليوم من حرب إعلامية ضد إسرائيل، هي غزو العراق في 2003 وما حشده إعلان الحرب آنذاك من متظاهرين رافضين ومنددين في عواصم العالم. وسريعاً جرت معاقبة أكاديميين وإعلاميين ونجوم سينما، بحيث لم تجدد عقودهم وأبعدوا من مناصبهم، فكانت تلك الإجراءات وغيرها كفيلة بخفض الصوت وكتمه نهائياً.

لكن، اليوم يبدو أن ثمة شيئاً مختلفاً. فهناك في فرنسا تظاهرات حاشدة تأييداً لغزة، كسرت الحظر وجابت الشوارع بأعداد كبيرة. وفي أميركا نفسها برز حراك قوي داعم للفلسطينيين، حتى بات متاحاً أن يظهر إعلامي شعبي هو جون ستيوارت، على الشاشة ويقرب المأساة الغزية من مشاهديه بالسخرية من مزاعم إسرائيل في منح الفلسطينيين وقتاً كافياً للفرار من القصف فيما تطبق عليهم الحصار وتجعل مناطقهم كلها في مرمى النيران. وبشيء من الشعور بالمسؤولية والذنب، هناك من يسأل في بريطانيا لماذا لم يمنح الإسرائيليون أرضاً لديها عوضاً عن فلسطين، فيما انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي خريطة افتراضية تشير إلى مستوطنات في المملكة المتحدة تقضم غالبية مساحتها مع سؤال «بماذا كنتم ستشعرون؟».

وإلى ذلك، انضم إلى حملات مقاطعة المنتجات الإسرائيلية عملاق تجاري مثل «تيسكو» واتخذت أسماء لامعة مثل روبرت دنيرو ومادونا وريهانا وخافيير بارديم وغيرهم مواقف تطالب المجتمع الدولي بوقف فوري «للعدوان» ووضع حد «للمجازر».

وللمفارقة يأتي كل ذلك في وقت لا يميل الرأي العام الإسرائيلي إلى التهدئة، ولا حتى إلى مناقشة نتائج العمليات العسكرية. بل هي من المرات النادرة التي يصطف فيها الشارع الإسرائيلي بقوة خلف مزيد من التصعيد العسكري ويرى خلاصه ليس في القضاء على «حماس» فحسب، بل على الفلسطينيين بمجملهم. ففي بداية العدوان على غزة، وعلى أثر ارتفاع أصوات تنتقد استهداف المدنيين، صرحت نائب إسرائيلية بأنه على الجيش عدم الاكتفاء بقصف الأحياء السكنية، وإنما يجب قتل النساء الفلسطينيات أيضاً لمنعهن من حمل أجنة إرهابية!

تلك التصريحات الصاعقة التي كان يفترض أن تحدث زلزالاً ديبلوماسياً كانت في الواقع منسجمة مع مزاج إسرائيلي نزع عن الفلسطينيين إنسانيتهم، وما عاد يرى فيهم خصماً، بل عدواً صرفاً يجب سحقه. وفي السياق، لم تتوانَ وزيرة إسرائيلية عن القول إن الفلسطينيين «يستعرضون جثث قتلاهم لاستدرار العطف بينما إسرائيل تسعى إلى حماية مواطنيها وتقبل بخسارة معركة إعلامية على أن تسيل نقطة دم واحدة منها».

ماذا جرى إذاً ليتخذ الرأي العام الغربي موقفاً معاكساً إلى هذا الحد لمزاج الشارع الإسرائيلي؟ هل يعني ذلك أنه اصطف فجأة مع الفلسطييين، أو أن قضيتهم باتت محقة أكثر وقد انتزعت هذا الاعتراف الدولي؟

من المفيد النظر هنا إلى سلوك إسرائيل نفسها، وما طرأ عليها من تحولات عوضاً عن الاكتفاء بالقول إننا كنا على حق، وهذه مجرد صحوة ضمير غربي تجاه قضايانا. ففي إسرائيل اليوم هوة فعلية بين جيل لا يشك بضرورة قيام الدولة العبرية لكنه يريدها عند حدود الـ67 وضمن شروط تسهل مفاوضات تفضي إلى حل الدولتين بما يضمن أمنها، وجيل شاب متطرف مختلف بنسيجه الاجتماعي وبلاد منشئه، ويدفع بالأمور إلى أقصاها فيصوت لمصلحة قضم الأراضي وبناء المستوطنات، ويدافع عن القوة العسكرية المفرطة ويرى في المدنيين هدفاً مشروعاً وغير ذلك مما يوحي بأن إسرائيل أنتجت صيغتها «الحمسوية» من المستوطنين.

وإلى ذلك، فإن المقاربة الإسرائيلية للصراع المديد مع الفلسطينيين، تغيرت وأفقدتها «شرعيتها» في نظر الغرب. فاليوم ما عاد النقاش يصب في أحقية القضية الفلسطينية من عدمه، بل في كيفية إدارة هذا الجوار المستعصي. وأداء إسرائيل لم يسعفها كثيراً. ففي حين يزعم خطابها البحث عن حل شامل ومفاوضات سلام، يأتي أداؤها العسكري فيقصف المدارس والمستشفيات ويستعرض «إنجازاته» متوعداً بالمزيد. وكان سبق للفلسطينيين أنفسهم أن اختبروا فشل المزاوجة بين طاولة المفاوضات والبندقية. هذا كله وغيره من المعايير الإسرائيلية المزدوجة حيال الغرب، لا حيالنا نحن، واستباحة أبسط حقوق الفلسطينيين، سحب فرصة الدفاع عنها من أقرب حلفائها… فبات ما أقدمت عليه وللمرة الأولى «سقطة أخلاقية». فهل من يبني عليها من جانبنا؟