IMLebanon

غزة تكتب التاريخ بدمائها: نحو 4 آلاف شهيد وجريح

المقاومة لا تلين وتربك العدو والوساطات التائهة بين الدوحة والقاهرة

غزة تكتب التاريخ بدمائها: نحو 4 آلاف شهيد وجريح

حلمي موسى

وبعد أسبوعين من القتال في حرب “الجرف الصامد”، تَظهَر إسرائيل للعالم، بما في ذلك لأقرب حلفائها، بوجهها الأشد بشاعة، بعد أن توحشت في محاولاتها تحقيق إنجاز على حساب الدم الفلسطيني.

ورغم تباهي الجيش الإسرائيلي بتحقيق إنجازات ميدانية، إلا أن الواقع يشهد على أن الحرب البرية التي شنها على قطاع غزة تضطره لدفع أثمان باهظة في الأرواح. فالجيش الإسرائيلي يضطر لأن يعلن في كل يوم عدد جنوده القتلى، ما يزيد في حدة السجال الداخلي ويربك مخططات الحكومة الإسرائيلية في إعلان النصر وفرض الشروط.

ومن الواضح أن شلال الدم الفلسطيني الناجم عن شدة النيران الإسرائيلية على المناطق المدنية، وتنفيذ “عقيدة الضاحية” ليس فقط في الشجاعية، بل في العديد من مناطق القطاع في المغازي والبريج وخان يونس ورفح وبيت لاهيا، لم يشبع بعد نهم إسرائيل. فالخسائر التي تتكبدها تقريبا في كل متر تحاول التقدم فيه على أرض غزة تزيد من إفقاد العدو توازنه، وتدفعه للتخلي عن قناع الإنسانية والأخلاق الذي يدعي امتلاكه. وتكفي الإشارة إلى استهداف البيوت والأبراج السكنية وتدميرها فوق رؤوس ساكنيها، وبشكل منهجي ومن دون إنذار، لتبيان مقدار الإفلاس في التعاطي مع قطاع غزة ومقاومته.

ولليوم الثاني على التوالي سقط أكثر من 100 شهيد، بينهم عدد كبير من الأطفال في الغارات الجوية والقصف المدفعي على القطاع، ما يرفع عدد الشهداء منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، في الثامن من تموز الحالي، إلى أكثر من 570 فلسطينيا، وأكثر من 3350 جريحا. واستشهد فلسطيني برصاص مستوطن بالقرب من بلدة الرام المحاذية لمدينة القدس المحتلة.

وكان جليا أن ادعاء إسرائيل اكتشاف الأنفاق وتدميرها يصطدم بواقع أن المقاومة تقريبا في كل يوم من أيام القتال الأخيرة تحقق إنجازا بالنجاح في اختراق الدفاعات الإسرائيلية، وتنفيذ عمليات في الجانب الآخر من الحدود. وتقود هذه العمليات إلى بث الذعر، ليس فقط في صفوف الإسرائيليين في مستوطنات غلاف غزة، بل كذلك في صفوف الجيش الإسرائيلي نفسه.

ورغم كل الاحتياطات المتخذة، وانتهاج سياسة الأرض المحروقة، لمنع أي احتمال بوجود مقاومة للقوات البرية، ينجح مقاتلو “كتائب القسام” و”سرايا القدس” في تحطيم نظرية الالتحام الإسرائيلية. وتكفي الإشارة إلى أن فارق القوة النارية الهائل لم يحل دون المقاومة وتكبيد العدو، وفق اعترافه حتى الآن: 25 ضابطا وجنديا، قسم مهم منهم من الوحدات القيادية والنخبة، وإصابة ما لا يقل عن 150 جنديا. وأعلن العدو، أمس، مقتل 7 جنود وإصابة 30 بينهم ثلاثة بجراح خطرة.

واضطر رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه موشي يعلون ورئيس أركان الجيش بني غانتس لتنظيم جولات ميدانية على القوات قرب قطاع غزة في محاولة لرفع معنوياتها. وشدد نتنياهو أمام هذه القوات على أن “الجيش يتقدم في المنطقة وفقا للخطة، والعملية ستزداد اتساعا إلى أن تحقق هدف إعادة الهدوء لسكان إسرائيل لفترة طويلة”. ولم يتطرق نتنياهو هنا إلى هدف “تجريد غزة من الصواريخ والأنفاق” الذي كان أعلن مرارا تمسكه به. وأشار إلى أن “إنجازات القتال واضحة على الأرض. وأنا منفعل من عملية ضرب الأنفاق، وهي تحقق نتائج تفوق توقعاتنا”.

وقد كسبت المقاومة الفلسطينية صدقية في تعاطيها الميداني والإعلامي، بحيث أن تقاريرها عن استهداف آليات وقتل جنود وضباط سرعان ما يتبين أنها صحيحة. كما أن إعلان المقاومة عن وجود أسير لديها لم يجد ما يناقضه لدى العدو، الذي يريد من المقاومة إثباتا ملموسا أنه لديها قبل أن تقدم على الاعتراف بذلك. وفي كل حال، فإن أداء المقاومة ونجاحاتها شكلا إرباكا معنويا وسياسيا لإسرائيل، وعززا إرادة المقاومة والتفاف الجمهور الفلسطيني في غزة حولها.

ومن المؤكد أن الهجمات التي يعترف الجيش الإسرائيلي بشن وحدات المقاومة لها على جنوده على طول القطاع، وفي كل أماكن تواجده وخلف خطوطه، تشهد على أن المقاومة حتى بعد مرور أسبوعين على حرب “الجرف الصامد” تراكم زخما ولا تتراجع. وبالأمس ظلت الصواريخ تنطلق من غزة إلى تل أبيب وما بعدها، بالوتيرة ذاتها التي كانت منذ الأيام الأولى، وبشكل زاد من قلق الإسرائيليين وشكهم بقواتهم وخشيتهم على مستقبلهم.

وأشارت تقارير إسرائيلية إلى أن عدد القتلى والإصابات في صفوف الجيش الإسرائيلي كانت ضمن التقديرات الأسوأ لا الأفضل، وأن الجيش الإسرائيلي لم يفلح، على الأقل حتى الآن، في تحقيق الردع الذي يريده. فمقاتلو المقاومة منظمون ويهاجمون ويتحركون وفق نظرية قتال مدهشة، ولديهم سيطرة كاملة على الميدان.

وتتحدث التقارير عن “إخفاقات” كثيرة، ليس فقط على الصعيد الاستخباري، رغم كل الموارد التي ترصد لذلك، بل أيضا على الصعيد القتالي في مستوياته التخطيطية والتنفيذية. ويتحدث خبراء عن أن انتهاء المعركة يمكن أن يثير مطالب بلجنة تحقيق لا تقل أهمية وخطورة عن تلك التي شكلت بعد “حرب لبنان الثانية”. ويتحدث هؤلاء عن إخفاقات من نوع نجاح المقاومة في استهداف وتدمير مدرعة قيادية للواء 188، ووقوع جنود لواء “جولاني” في كمائن المقاومة في الشجاعية. وفضلا عن ذلك، هناك أهلية القوات التي شاركت في القتال حتى الآن، والتي رغم كل مظاهر التمجيد لها، لم تثبت قدرات فائقة، والأمر يتصل حتى بوحدات النخبة العليا مثل “شييطت 13″ و”ماجلان”.

ويبدو أن إسرائيل لا تعرف ماذا ينبغي لها أن تفعل في ظل عدم امتلاكها إستراتيجية خروج من الحرب من ناحية، وتنامي الضغط الدولي من أجل وقف العدوان من ناحية أخرى. وتكفي هنا الإشارة إلى الجهود التي يبذلها الرئيس الفلسطيني محمود عباس مع “حماس” من أجل توفير فرصة للاتفاق على تهدئة أو وقف إطلاق نار أو هدنة إنسانية. ولوحظ أن هناك نوعا من التحرك في الموقف المصري من المبادرة وتلميحات بالاستعداد لفتحها، بعد أن تدخلت الولايات المتحدة وإسرائيل في هذا الشأن. وكان لافتا الدور الذي تؤكده أميركا على أرفع مستوى بإعلانها تأييدها للوقف الفوري “للأعمال العدائية” وفق اتفاقية العام 2012 التي حاولت المبادرة المصرية بصيغتها الأولى تقييدها. وقد وصل وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى القاهرة تمهيدا لوصوله إلى تل أبيب لدفع الحكومة الإسرائيلية لقبول اتفاق لوقف النار. كما كان لافتا موقف الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون حول وجوب وقف النار وفك الحصار عن “غزة الجرح”.

وبالعموم، فإن الجمهور الإسرائيلي يسعى إلى إشباع غرائزه بقتل المزيد من العرب، ولذلك يؤيد الحرب، لكنه يجد حاليا أن تخوفاته من أثمانها تتحقق. ويعتقد كثير أن تأييد الجمهور الإسرائيلي للحروب لا يعني استمرار قبوله بها، خاصة عندما تبدأ مصالحه في التأثر ويشعر بثمن هذه الحرب. وتكفي هنا الإشارة إلى أن إيهود أولمرت خاض “حرب لبنان الثانية” وهو يحظى بأعلى درجة من التأييد، لكنه مثلا في يوم واحد خسر شعبية بنسبة 30 في المئة، وقام الجمهور بإسقاطه، أساسا بسبب تلك الحرب.

وتتحدث أوساط مختلفة عن إمكانية إعلان هدنة إنسانية طويلة الأجل، على أن تفتح هذه الهدنة الباب أمام مفاوضات للتوصل إلى اتفاق جديد. ويبدو أن إعلان هدنة كهذه يحل مشكلة للطرفين الراغب كل منهما في تعديل اتفاق العام 2012 لمصلحته. فإسرائيل يصعب عليها بعد كل ما دفعته من أثمان، على شكل هيبة وخسائر عسكرية واقتصادية وفي الأرواح، القبول بالعودة إلى اتفاق يبقي للمقاومة قدرة على التطور والتعاظم. أما المقاومة فإنها تجد غير مقبول عدم تأكيد وجوب فك الحصار.