IMLebanon

غزة تواجه المحرقة: 10 آلاف شهيد وجريح

المقاومة تأسر ضابطاً.. والعدو يطلق العنان لـ”إجراء هانيبعل”

غزة تواجه المحرقة: 10 آلاف شهيد وجريح

حلمي موسى

وفي اليوم الخامس والعشرين للحرب الإسرائيلية على غزة تجد حكومة بنيامين نتنياهو نفسها أمام المفترق ذاته الذي وقفت عنده في اليوم الأول للحرب، حائرة ومرتبكة لا تعرف الوجهة، فالضربات التي وجهتها المقاومة للجيش الإسرائيلي في قطاع غزة أفقدت الجيش وقيادته السياسية آخر درجات الاتزان، ودفعتهم إلى إطلاق يد الجيش في تنفيذ “إجراء هانيبعل” القاضي بـ”قتل الأسير وآسريه”. ولأن الآسر غير ملموس، فإن بيئته تصبح الهدف للطائرات والمدفعية الإسرائيلية، التي أسقطت في رفح وحدها أمس حوالي مئة شهيد، كلهم من المدنيين.

وكانت الخيبة نصيب القيادة الإسرائيلية الساعية لتكريس صورة نصر، أساسها تحرك الدبابات الإسرائيلية بأمان في أراضي قطاع غزة المحاذية للحدود، تحت رعاية “الهدنة الإنسانية”. واستبقت اسرائيل سريان الهدنة في الثامنة صباح أمس بشن أعنف غارات جوية وهجمات بالمدفعية والبحرية، على أمل أن تكون يدها هي العليا. لكن المقاومة كانت لها بالمرصاد، ليس فقط باستهداف تل أبيب ليلاً وبئر السبع وأسدود بالصواريخ حتى الساعة الثامنة إلا خمس دقائق، وإنما أيضاً بتنفيذ عمليات جريئة على الأرض. وكان أبرز هذه العمليات هجوم منسق في شرقي رفح، بدأ بعملية استشهادية ضد قوة من جنود لواء “جفعاتي”، وأعقبتها عملية اقتحام سيطر فيها مقاتلون من “كتائب القسام” على الوضع وأسروا قائد سرية برتبة ملازم. وكانت المقاومة أسرت جنديا آخر.

وتختلف الروايات الإسرائيلية والفلسطينية في موعد تنفيذ هذه العملية. والواضح أن الخلاف ليس فنيا وإنما سياسي بامتياز، لأن إسرائيل من خلال ادعاء أنها تمت في التاسعة والنصف تريد التأكيد على انتهاك “حماس” للهدنة الإنسانية، في حين تؤكد الحركة أن العملية تمت قبل سريان الهدنة بأكثر من ساعة.

وتتحدث أوساط فلسطينية مختلفة عن أن مآذن المساجد في رفح هللت وكبرت لأسر الجندي قبل دخول الهدنة الإنسانية، التي كان وزير الخارجية الأميركي جون كيري ومبعوث الأمم المتحدة روبرت سيري قد عملا على ترتيبها. كما أن مصدراً فلسطينياً أكد أن المصريين اتصلوا بهم لإطلاعهم على التطور الجديد حول أسر الضابط قبل الساعة الثامنة صباحا موعد سريان الهدنة.

وأياً تكن الحال فإن صدمة الجيش الإسرائيلي كانت هائلة. فلا شيء يجري التحذير منه في العملية البرية أكثر من الوقوع في الأسر. ولا شيء تحاول إسرائيل منعه أكثر من وقوع عملية أسر. ولهذا ما إن تأكدت إسرائيل أن عملية أسر الضابط تمت، حتى اندفعت طائراتها في عمليات قصف جنوني في رفح استهدفت البيوت والمساجد والمستشفيات، وبهدف شل أي حركة للسكان الفلسطينيين. وهرعت الدبابات الإسرائيلية في محاولة لقطع الطريق على كل محاولة لإخراج الأسير الإسرائيلي من منطقة الاشتباك أولاً، ومن رفح ثانياً. ومعروف أن الإجراء الذي اتبعه الجيش الإسرائيلي على نطاق واسع هو “إجراء هانيبعل”، الذي يقضي باستهداف الأسير الإسرائيلي وآسريه لمنع أية محاولات لإملاء شروط لاحقة على إسرائيل.

وكان جلياً أن الإجراء الإسرائيلي حطم الهدنة الإنسانية لـ 72 ساعة، التي كانت أعلنت، وفاقم بشكل كبير من المعاناة الإنسانية في القطاع. فتشريد عشرات الألوف من سكان المناطق الشرقية لرفح، عدا شلال دم الشهداء والجرحى، يزيد الضائقة الهائلة التي يعاني منها القطاع، حيث يزيد عدد الشهداء حاليا عن 1600 شهيد وعدد الجرحى يقترب من تسعة آلاف.

لكن الخطر الأكبر الذي باتت تحذر منه المنظمات الإنسانية، وبينها الصليب الأحمر ووكالة غوث اللاجئين (الاونروا) هو انهيار الجهاز الصحي، وتكاثر الجثث تحت الأنقاض وانقطاع الكهرباء والمياه، وتدفق مياه المجاري في الشوارع جراء القصف الإسرائيلي، ما يهدد بنشوء أوبئة خلال يوم أو يومين. وفضلا عن ذلك فإن هذه الأوساط تتحدث عن وجود ما لا يقل عن 400 ألف مشرد في القطاع جراء هدم إسرائيل لبيوتهم بشكل منهجي ومقصود، قاد إلى تدمير ما لا يقل عن 15 في المئة من منازل القطاع.

وقد عرض مسؤولون دوليون واقع الحال هذا في قطاع غزة على المسؤولين الأميركيين والأوروبيين والإسرائيليين. ورغم عبارات الإدانة الشديدة من جانب واشنطن لعملية أسر الضابط الإسرائيلي ووصفها بـ”البربرية” والمطالبة بإعادته، إلا أن الضغط يشتد على حكومة نتنياهو لوقف النار لمنع كارثة إنسانية.

ولكن إسرائيل لا ترى الكارثة التي تلحقها بأهالي القطاع بقدر ما ترى الخسائر التي تصيبها. فعداد الدم في الجيش الإسرائيلي بلغ رسميا حتى صباح أمس 61 جنديا قتيلا. وخلافا للأرقام التي تعلن عن الجرحى نشرت صحيفة “هآرتس” أمس حصيلة جرحى الجيش الإسرائيلي إلى ما قبل يومين، وقالت إنها بلغت 1357 جريحا من الجنود. وهي تواصل، حسب افتتاحية “هآرتس”، تغطية العجز العملياتي بتكثيف النيران واستهداف المدنيين.

وبات المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر يعقد جلساته بشكل يومي من دون أن يحسم خياراته حول ما يريد. وأفاد معلقون إسرائيليون أنه في أعقاب ما جرى في رفح أمس بدأت حفلة جنون سياسية، طالب فيها قادة اليمين وعدد من ذوي الرؤوس الحامية في الكنيست ووسائل الإعلام بالاندفاع إلى قطاع غزة وتدميره، من أجل استعادة قدرة الردع. وأشار بعضهم إلى أن كلا من نتنياهو ووزير دفاعه موشي يعلون ورئيس الأركان يتصدون بأجسادهم لدعوات الدخول إلى غزة وإعادة احتلاله.

وبديهي أن محاولات نتنياهو وشركائه لمنع إعادة احتلال القطاع لا تنبع من إحساس بالرحمة على سكان غزة، بقدر ما تنبع من قناعة بحجم الخطر الذي يحيق بالجنود الإسرائيليين، ليس فقط أثناء عملية الاقتحام وإنما خلال الفترة التي بعدها. ويعتقد خبراء أن الاقتصاد الإسرائيلي، رغم قوته، يعجز عن تحمل التكلفة الكبيرة المطلوبة لاحتلال القطاع وإدارة شؤونه لاحقا.

ويرى خبراء إسرائيليون أن من الحماقة اعتبار أسر جندي أمرا يغير الصورة بشكل جذري، ويتطلب تغييرا في إستراتيجية العمل الإسرائيلية. وأشار المعلق العسكري لـ”هآرتس” عاموس هارئيل إلى أن أسر جندي في الحرب لا ينبغي له أن يبلور صورة المعركة بأسرها. وأسر الملازم هدار جولدن سيزيد الضغط الشعبي لتشديد الغارات. ولكن رغم الألم لا ينبغي لسقوط ضابط في الأسر أن يغير الأهداف الإستراتيجية للقتال. لا بالتنازلات ولا بالمفاوضات، ولا بمسألة إن كان ينبغي لإسرائيل الانسحاب أو تعميق توغلها في القطاع.

ومع ذلك فإن نتنياهو يناور بين إطلاق التصريحات النارية حول معاقبة “حماس” وتكبيد غزة ثمناً باهظاً لتحديها ووقوفها خلف المقاومة، وبين الضغوط الدولية والتكلفة الميدانية. وحاولت حكومة نتنياهو كسب المزيد من التأييد الأميركي والأممي من خلال اتهام “حماس” بانتهاك الهدنة الإنسانية بشكل فظ، حسب تعبير المسؤولين فيها. وقال نتنياهو إن “حماس لا تكتفي باستخدام سكان غزة كدروع بشرية، وإنما تنتهك أيضا الهدنة الإنسانية، وبذلك تمنع وصول المساعدات الإنسانية إليهم. هذا برهان إضافي على أن حماس معنية بأن يعاني سكان غزة، منطلقة من الإيمان بأن العالم سيتهم إسرائيل بهذه المعاناة”.

وكما سلف، دان وزير الخارجية الأميركي جون كيري، الذي تلقى اتصالا هاتفيا من نتنياهو، أسر الجندي الإسرائيلي بعبارات شديدة، فيما دعا الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي “في أسرع وقت ممكن ومن دون شروط”، وإلى مزيد من الجهود لحماية المدنيين في غزة.

وأعلن وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو أن أنقرة ستبذل قصارى جهدها للعمل على إطلاق سراح الضابط الإسرائيلي، إلا انه أشار إلى أن الأولوية يجب أن تركز على تنفيذ الهدنة.

كما أن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون اعتبر “الاختطاف” انتهاكا خطيرا لوقف النار، ويثير شكوكا حول صدقية الضمانات التي أعطتها “حماس” للأمم المتحدة في إطار وقف النار. وقال مسؤول رفيع المستوى في وزارة الخارجية المصرية إن المفاوضات ستبدأ غدا وإن القاهرة “تتوقع أن يتوقف الطرفان عن إطلاق النار قبل بدء المفاوضات”.