توبخ ملحمة غزة الراهنة ضمائرنا. تستفز ما علق من صدأ الاهمال والخذلان والتسليم بعقولنا وقلوبنا وسواعدنا.
تواصل غزة، استنفار ما تبقى فينا من نخوة وكرامة، وما تبقى لدينا من اثار وفلول الشعارات والاحلام والعقائد. هي تجتهد، بدم اطفالها وحجارة مستشفياتها ومدارسها، كي تعيد الامور الى نصابها والحكايات إلى أولها والاحلام إلى أجملها.
هي، غزة، تراهن على ان تستنفر غَضبنا أو بعضاً منه، فلمن ندخر هذا الغضب إذن! ومتى، إذا لم يكن الآن (وليس غداً) نشهره في وجه القتلة والسفاحين ومجرمي الحروب واعداء القيم والحضارة الانسانية؟
وتُعنّف غزة فينا الفئويات والانصراف اليها، والمصالح الصغيرة والاستغراق فيها، والاخطاء وعدم الرغبة في الاستفادة من دروسها.
وتفضح غزة، بالألام العظيمة وبالتضحيات الجسيمة، ما ارتكبناه من آثام، وما بنيناه من اوهام، وما زورناه من ارقام، وما نمقناه من معسول القصائد والبلاغة والكلام.
تلعن غزة سلاطين المال والدولار والاستبداد والبغاء والخداع. تطلق في وجوههم صرخة صاحب الرزق ضد سارق الرزق، وصيحة صاحب الحق في وجه المتواطئين مع مغتصبي الحق، ولعنة حارس المقدسات في وجه المتهاونين والمجذفين والمرتزقة والعملاء…
ولغزة من مرارة المعاناة والتجارب ما يحصنها ضد الرهانات الخاطئة والحسابات الواهمة على المستعمرين وادواتهم: هي من الحكمة بحيث لا تخدعها الوعود والعهود، ولا يستخف عقلها بما يبذله هؤلاء من الاتفاقات والإغراءات والعقود.
وتعرف غزة كيف تتجاوز نفسها وتصحح مسارها. هي لديها من فائض الحق والدم والجرح ما يتيح لها دائماً ان تكون سخية وقاسية، متطلبة وراضية، عنيفة ومتسامحة… ذلك أن غزة «هاشم» لا تملك ترف أن تمعن في السهو والخطأ إلى نهايتهما، فدون ذلك وجودها ومصيرها ومستقبل اطفالها…
لكل هذا وسواه، تلعن غزة، خصوصاً الآن، اولئك الذين يتنافسون مع الصهاينة على ارتكاب المجازر والفظائع، وعلى تقطيع اوصال البلدان وشرذمة خرائطها، وعلى ذبح الابرياء من دون رحمة أو تمييز، وعلى تدمير الحضارة والاعتداء على التاريخ والقيم والمقدسات… كم أخطأ ويخطئ هؤلاء الشاذون الظلاميون التكفيريون الذين بالغوا حتى بلغوا حدود الإجرام الصافي، بل وصلوا إلى قمة الشطط والخطيئة. إنهم الوجه الاخر، بالقصد او الجهل، لذابحي اطفال غزة، المجرمين الصهاينة الذين أحرجوا بفظاعاتهم ومجازرهم حتى اكثر حماتهم التزاماً ودعماً واستهتاراً.
يجسد شعب غزة في صموده الاسطوري الراهن فصلاً جديداً من فصول تشبُث الشعب الفلسطيني بكل شبر من أرضه وتمسكه باستعادة وطنه السليب. صموده المدهش الراهن هو، بالتأكيد أيضاً، حلقة من حلقات كفاحه المرير والطويل من أجل نيل أو استرجاع حقوقه المهدورة وقيمه ومقدساته المهددة على يد القطعان الفاشية القادمة من اربع جهات الارض. لقد قُدّر للشعب الفلسطيني أن يدفع كفارة ذنب لم يرتكبه أبداً. تواطأ متآمرون ومغامرون واصحاب اطماع على اختيار واختبار ارضه لتكون مكب نفايات كل ما افرزته الصراعات والتناقضات والالتباسات والاساطير، على امتداد مجمل حقب التاريخ البشري: الشذوذ والعنصرية والاجرام والعداء للبشرية وحضاراتها وانجازاتها، ولحقوق الإنسان وما تراكم في رصيده من ضمانات تحمي إنسانيته وكرامته تميزه.
تمثل غزة في تضحياتها وبطولات ابنائها (قبل فصائلها) صفحة جديدة من صفحات ذلك الكفاح المرير والطويل والدامي، الذي ما فتئ الشعب الفلسطيني يخوضه منذ نُكب بآخر وأقذر احتلال استيطاني (في العصر الحديث). احتلال أرادته الامبراطوريات الاستعمارية اداة وسوطاً للجم حركة تحرر الشعوب وللنيل من حقوقها وسيادتها وثرواتها، وأرادته الصهيونية مختبراً لممارسة سياسة الإخضاع والتشريد والبطش والاجرام والاعتداء على القيم والحضارة والمقدسات، باسم الادعاءات التاريخية الملفقة، والاساطير الدينية المفبركة، والاكاذيب المنسوبة، زوراً وبهتاناً، إلى الخالق وإرادته ومشيئته.
صمود شعب غزة اليوم يختصر فلسطين، كل فلسسطين. فغزة البطولة والتضحيات والمعاناة هي الابنة الشرعية لمأساة الشعب الفلسطيني وتشرده ومقاومته في كل الأوقات والمراحل. هي رصاصات «فتح» الأولى. هي معركة «الكرامة». هي الانتفاضة الاولى والثانية. هي صمود المواطن الفلسطيني في أرضه المغتصبة والمحتلة. وهي صبره في الشتات على مرارة التشرد وتعسف السلطات وعلى قسوة العيش والفقر. وهي فيها، كالعادة، رائحة دماء قوافل الشهداء الطويلة: جيلاً بعد جيل وعائلة بعد عائلة وطفلاً بعد طفل. وفيها كذلك الام ومعاناة ومقاومة عشرات آلاف الأسرى والمعتقلين ممن تناوبوا على سجون المحتلين الجلادين وسطروا في زنزاناتهم الواناً لا تنسى من المقاومة والصمود والتحدي… هي، أيضاً صنوف الإبداع الفني والأدبي التي يمارسها أبناء الشعب الفلسطيني أداة صمود ومقاومة لمواجهة وافشال المخطط الصهيوني الاستعماري، مع كل قصيدة مقاومة تكتب، ومع كل طفل يولد، ومع كل قطرة دم تسري في عروق فتى يرجم المحتلين بحجر أو بطعنة أو بلعنة أو بنظرة غضب، ومع كل اختراع وابتكار لتصنيع عبوة أو لتجميع صاروخ قصير المدى أم بعيده أو لاختراق الحصار أو «الجدار» أو الحواجز هنا وهنالك على امتداد الحدود والأنفاق والمعابر… مع «الإخوة» والأعداء على حد سواء!
يحتاج الشعب الفلسطيني في ملحمة صموده الراهنة إلى التوحد. لم تكن وحدة القضية دائماً سبباً كافياً لوحدة النضال من أجلها. وصل الخلاف الى حدود الانقطاع أو حتى القطيعة. وحدة النضال والأولويات هي أحد الأسلحة الثمينة في معركة بالغة القسوة كمعركة الشعب الفلسسطيني من أجل أرضه وحقوقه. تجاهر القيادة الصهيونية بصفاقة عجيبة بكون المصالحة بين حركتي «فتح» و«حماس» هي أحد أهداف عدوانها الحالي! بناء الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، واستخدام كل وسائل النضال السياسية والسكرية والشعبية، من أجل تحقيق هذا الهدف، هما ما ينبغي أن يكون العمود الفقري لعملية التوحد الفلسطينية التي طال انتظارها والتي ينبغي تسريعها الآن على وهج النار التي تحرق أجساد أطفال وأبناء غزة ورام الله.
ويحتاج الشعب الفلسطيني الى التضامن في مواجهة بربرية الغزاة وحماتهم والمتواطئين معهم. يحتاج إلى دعم نزيه وغير مشروط بولاء أو بثمن سياسي أو إعلامي أو انقسامي أو استخدامي.
لن يكون هذا التضامن فعالاً، أو حتى ممكناً، ما لم يقع في سياق عملية نهوض واسعة وشاملة وجذرية: عملية يجرى خلالها تجاوز الفئويات والجزئيات والصنميات السياسية والعقيدية… لمصلحة النضال المشترك ضد الهيمنة والنهب الاستعماريين، وضد المشروع العدواني الصهيوني، ومن أجل الحد الأدنى من التنمية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والديمقراطية.