IMLebanon

غنائم «حزب الله»: التوافقية والليبرالية والفراغ

 

 

في لبنان حزبٌ نجح في التقاط العطب التكويني للأيديولوجيا «الديموقراطية التوافقية» اللبنانية فسيّرها على هواه. فمن جهة، تبنّى «التوافقية المطلقة» في المسائل الدستورية، واشترط أن يأتي الرئيس العتيد «بالتوافق معه»، وإلا فلا رئيس ولا توافق. ومن جهة ثانية، أعفى المسائل السيادية من ملزمات التوافق حولها، فإما الالتفاف حول المقاومة كما يراها، وإما تباهي المقاومة بالاستغناء عن كل إجماع وطني، وإيثارها الالتفاف حول «أهلها» والتفاف أهلها حولها، بحميمية تُمارس تطبيقياً في المجال السوري.

هذه «التوافقية» لم يخترعها «حزب الله» لكنه تمكّن منها بشكل مطبق. هي في الأساس أيديولوجيا تحاول أن تبث في الجسد اللبناني الاطمئنان بأنه لا يحكم من لدن طائفة دون الأخرى، إلا أن «الغلو في التوافقية» في المسائل الدستورية، و»البراء» منها في المسائل السيادية، يقلبها على ظهرها، ضاحكة على نفسها، في مسار تعطيلي تراكمي، يضرب بشكل مباشر المهل الدستورية.

وهذه على ما يبدو حصّة لبنان من مناخ عالمي سمته العامة ازدهار مظاهر التحايل على الديموقراطية انطلاقاً من حُسن التقاط عناصر تفسّخها، وابتعاد أشكالها عن مضامينها.

طبعاً، الطامة اللبنانية لها خصوصيتها. ففي لبنان ثقافة سياسية سائبة لم تفهم بعد أن الديموقراطية هي في الأساس للفصل في القضايا السياسية الخلافية، وللفصل بين المختلفين، تماماً مثلما هو القانون، للفصل في المنازعات بين المواطنين. لا يمكن أن ينبني منطق الديموقراطية على تعليقها، أو تأجيلها، إذا تعذّر التوافق. فالصيغ الديموقراطية، الاحتكامية للناخبين أو وكلائهم، والتداولية على السلطة، والفاصلة بين السلطات، والرقابية عليها، هي في الأساس صيغ معدّة للاشتغال حيثما يتعذّر التوافق. الآليات التوافقية تأتي في هذا المجال لحماية النظام السياسي من التلف بسبب «كثرة استعمال» آليات الديموقراطية، لكنها لا تعوّض بأي حال عن هذه الآليات، ومنطق أن «لا ديموقراطية إلا بالتوافق» هو نفي لكل منهما. في الديموقراطية، التوافقية مشروطة بالزمن الدستوري والمهل كما يحدّدها النص، وكما يوجبها استمرار عمل مؤسسات الدولة.

طبعاً، التحايل على الديموقراطية يجد له في عالم اليوم أشكالاً أخرى، فليس قليلاً ازدهار الحركات الشعبوية، الأمر الذي عبّرت عنه انتخابات الهند التشريعية وانتخابات البرلمان الأوروبي، لا سيما في فرنسا حيث حلّت «الجبهة الوطنية» اليمينية المتطرّفة في الموقع الأوّل، وإذا كان فلاديمير بوتين قد تحوّل الى العنوان الأبرز للتحايل الشعبوي التسلّطي على الديموقراطية في عالم اليوم، فإنه حتى في نظام ديموقراطي تعددي صلب كألمانيا لا بدّ من التوقّف عند الظاهرة الشعبوية الحاكمة التي اسمها المستشارة انجيلا ميركل، والحال أن نجم مارين لوبين في فرنسا لا يقارن بالإحالة الى «الدقة القديمة» والدها، بقدر ما أنها تحاكي نموذج ميركل، مع فارق أن ميركل فرنسية لا يمكن أن تأتي إلا من أقصى اليمين.

«حزب الله» وأمينه العام هو بهذا المعنى جزء من حالة شعبوية عالمية، ترتدي أكثر من لباس ووجهة، لكنها تجتمع على قاعدة أساسية، كل بحسب سياقه، ودرجته: التحايل على الديموقراطية انطلاقاً منها. الفارق أن ثمة من يتحايل على ديموقراطية صلبة في حين ثمة من يتحايل على ديموقراطية واهنة، وجزئية، في بلد فاقد أصلاً للسيادة.

في السياق اللبناني، شكّلت موضوعة «التوافق» سنداً أساسياً للتحايل على الديموقراطية وقضم مؤسسات الدولة. في السياق العربي، لعبت فكرة «الدولة المدنية» دوراً مشابهاً. العسكر فهموها أنها دولة استئصال الاخوان إن لم تحسن الطاعة. الاخوان فهموها على أنها دولة عسكرهم هم، لا «عسكر الدولة». أما في السياق الأوروبي، فيأتي «التحايل على الديموقراطية» مزدوجاً: فمن جهة، ثمة يمين عميق بالكاد يخفي أن مشكلته العميقة هي مع القيم التنويرية ومع البرلمانية، ومن جهة ثانية، ثمة، كما في فرنسا، نظام يُطعَن في شرعيته في مكان أساسي منه، طالما أن ركناً أساسياً من المجتمع السياسي، حلّ أولاً في الانتخابات الأوروبية، لا يزال منبوذاً برلمانياً وحكومياً داخل فرنسا.

وكما في لبنان كذلك في كل مكان من الكوكب: ثمة إشكالية مشتركة. الإشكالية هي أن الشعبوية، المتحايلة على الديموقراطية، تنطلق من ابتعاد أشكال الديموقراطية عن مضامينها، فالدولة المدنية مثلاً تبقى تجريداً يمكن أن يملأه العسكر أو الاخوان بمعرفتهم، طالما أنها لم تتضمن الدولة الاجتماعية، وطالما أنها لم تستند الى دعامات متينة في التراث الدستوري والقانوني للحداثة. وإذا ما عدنا لأعمال مفكرين أساسيين كارنستو لاكلاو وجاك رانسيير لربما كان علينا التنبه بأن صفة «الشعبوية» التي نطلقها على الحركات المتحايلة على الديموقراطية، في زمن الانفصال الحاد بين أشكال الديموقراطية ومضامينها، إنما تستفيد بالدرجة الأولى من طغيان أيديولوجيا ليبرالية متعالية على كل ما هو «شعبي» بحجة أنه «شعبوي» وعلى ما هو ريفيّ بذريعة التعصّب للفردانية والمدينية. اليوم، الريف يقول كلمته من انتخابات الهند حتى أوروبا، أو، هو في مصر مثلاً، يقول صمته، وعندنا أيضاً، هذه النزعة المزدرية لما هو «شعبي» بحجة أنه «شعبوي« هي أكبر زاد لـ»حزب الله». اذا جاز القول، إن الليبرالية والتوافقية والفراغ هي اليوم من غنائم «حزب الله».