لن يكون فراغاً عادياً الفراغ المقبل، بل فراغاً مسلّياً لن يحرك أحد ساكناً تجاهه ما لم يمس بالاستقرار. على اللبنانيين التكيّف مع الحياة مع نافورة مياه جافة في بعبدا
يحتفل رئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط بسماحه لمن هجّرهم من قريتهم بالعودة إليها. يشاركه رئيس الجمهورية وبطريرك الموارنة الاحتفال، ويضحكان لضحكه من ترشح العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية. ولا يلبث أن يشغل البلد ثلاثة أيام في تفسير هفوته وتحليلها. وها هو «ينط» إلى باريس أملاً بلقاء وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل بالصدفة في أحد المتاحف أو المعارض الفنية، مسلياً الإعلام بأضحوكة جديدة: هو في باريس لتفقّد شقة نجله الجديدة، أما الوزراء والمستشارون المرافقون فمهمتهم «دوكرة» الشقة.
يلهو جنبلاط، وعون في مكان آخر: يخرج كل من يزور الأخير هذه الأيام بانطباع أنه لن ينسحب من السباق، في حال انسحب، لغير الوزير السابق فارس بويز. أما الوزير السابق زياد بارود فشاب طموح يعجب الجنرال، بحسب انطباعات الزوار أنفسهم. وفي المقابل، يتسابق مختلف المرشحين على إعلان ولائهم لعون: بارود يتحدث عنه في مجالسه الخاصة بوصفه الرئيس المقبل الحتمي، بويز مسح كل ما سبق أن قاله عنه وعن خرافه، أما المقربون من قائد الجيش جان قهوجي فانشغلوا في اليومين الماضيين في زف توافق السعوديين والإيرانيين عليه رئيساً بعد أن تركوا كل ملفاتهما المشتركة الحساسة للتوافق على الرئيس اللبناني أولاً. وفي السياق نفسه، شعر الرئيس أمين الجميل بالعزلة في الويك إند، فحسم أمام زواره سير الرئيس سعد الحريري بعون لتقليب قوى ١٤ آذار عليه وتحريضهم. أما البطريرك بشارة الراعي فأكثر من يتسلى بهذه الحفلة، هو حول الجميل من «منقذ الجمهورية» كما كان يصف نفسه إلى «باني الجسور» كما وصفه على باب الصرح. حطم خلال يومين فقط كل مسعى سليمان للظهور بمظهر غير الراغب في التمديد. وبدل أن يدافع عن مبدأ حق الزعيم الماروني الأول بالرئاسة الأولى على غرار الزعامة الشيعية ورئاسة المجلس النيابي والزعامة السنية ورئاسة الحكومة، يسعى جاهداً لإطاحة هذا المبدأ. والصراع بين الزعامة المسيحية والبطريركية على زعامة المسيحيين قديمة، لم تبدأ مع عون والراعي طبعاً. فلا البطريرك أنطوان عريضة هضم الرئيس بشارة الخوري، ولا البطريرك خريش كان معجباً بالرئيس بشير الجميل، ولا قوائم البطريرك نصرالله صفير نفعت في غير إحراق المرشحين.
ولعل التسلية تطول. فلا شيء محلياً أو إقليمياً أو دولياً يوحي بانسدال الستارة مجدداً على هذه المسرحية.
المكتب المعني في الإدارة الأميركية بلبنان هو نفسه المعني بكل من إيران والعراق واليمن ومصر وسوريا وليبيا والسعودية والأردن والأراضي الفلسطينية المحتلة وعشر دول أخرى. ويشير المطلعون على الشاشة العملاقة المثبتة في صدر هذا المكتب إلى أن الغبار يخفي أحرف لبنان السبعة بالإنكليزية المطفأة بالكامل. أما الغرفة الخاصة بلبنان ضمن هذا المكتب فتضم سوريا والأردن وفلسطين أيضاً، ويحتشد هنا نحو عشرة متابعين للملف السوري، مقابل متابع واحد للملف اللبناني أو ما يعرف بالـ Desk Officer. مهمة الأخير كتابة وجمع ما أمكنه من تقارير سياسية واستخبارية لتزويد الإدارة بها في حال تقررت إضاءة الأحرف المطفأة. وكل من يقارن بين ما يتناهى إلى سمع ونظر هذا الموظف وما يجمعه السفير الأميركي في بيروت دايفد هيل بحكم وجوده في قلب الحدث، يؤكدون أن ما من منازع لهيل في ما يخص الملف اللبناني في الإدارة الأميركية اليوم. ومع ذلك، يصرّ الكثير من السياسيين اللبنانيين على التعامل مع هذا الموظف، منذ عهد الرئيس أمين الجميل، بوصفه رئيس الولايات المتحدة أو مفوض قصر الصنوبر السامي، مع العلم بأن عمل الأخير يتركز منذ أكثر من عامين على أزمة النازحين السوريين أولاً، وملف النفط ثانياً. أما السياسة بالنسبة إليه، وكما توحي أسئلته لمن يقابلهم، فلزوم ما لا يلزم. والخلاصة الوحيدة التي يستنتجها من يفهم لغة الأميركيين هي وجوب الحفاظ على الاستقرار اللبناني. فبين المكاتب الجغرافية الستة، «مكتب شؤون الشرق الأدنى» هو الأكثر اضطراباً، نظراً إلى ازدحام المشاكل في دوله. وأقصى ما تطمح إليه الإدارة الأميركية، وفق دعاية دبلوماسيتها، هو إيجاد حلول في هذه الدول لا زيادة المشاكل، خصوصاً أن خصوم الولايات المتحدة يحققون خلافاً لكل توقعاتها النجاح تلو الآخر في الاستفادة من هذه المشاكل.
لا قرار أميركيّاً حاسماً وحال السعودية من حال سوريا
ويتقدم بالتالي عنوان الحفاظ على الاستقرار كل الشعارات الأميركية التقليدية؛ فلا فيتو رسمياً على أحد، وإن كان بعض الموظفين الجدد في هذه الإدارة يتلعثمون بلفظ أسماء اثنين من المرشحين اللبنانيين إلى رئاسة الجمهورية، معتبرين أن انتخاب أحدهما أشبه بتقديم هدية مجانية للرئيس السوري. ولا تأييد صارخاً لأحد، فلا أحد من «جماعة السفارة» قادر على مواكبة التحولات الأميركية بالسرعة المطلوبة، علماً بأن السفير الأميركي دايفد هيل لم يترك أحداً إلا سأله عن سلبيات وإيجابيات انتخاب العماد ميشال عون رئيساً لتكوين فكرة فقط، لا أكثر. ولعل الحديث الأغنى بالدلالات هو إشارة الدبلوماسيين الأميركيين المستجدة إلى وجوب فصل اللبنانيين بشكل واضح ونهائي بين السياسة والمؤسسات الرسمية لضمان الاستقرار، بحيث يقوم الجيش بواجبه بمعزل عن الصراع السياسي وحسابات ضباطه الخاصة، وكذلك المصرف المركزي وكل المواقع غير السياسية الأخرى. ويتحدث العائدون من الولايات المتحدة بإسهاب عن اقتناع الإدارة الأميركية بأن أحد الأسباب المهمة التي تحول دون قيام المؤسسات الرسمية بما تكرر البيانات الأميركية وصفه بالواجب، تجاه سلاح حزب الله، هو حرص قائد الجيش فور تعيينه على عدم استفزاز الحزب أملاً بانتخابه رئيساً بعد ست سنوات. ولا بدّ بالتالي من تحرير قائد الجيش وغيره من هذا الهم السياسي، عبر الفصل نهائياً بين مواقعهم الإدارية وموقع رئاسة الجمهورية السياسي.
وعليه، لا قرار أميركيّاً حاسماً. يتقن «دايف» بابتسامته الدائمة التعبير عن أوضاع إدارته: هي أشبه بـ«مستر بِيْن» يوزع ابتسامات صامتة. أما عربياً، فيروي أحد السفراء العرب في بيروت أن سليمان قطع طريق الفراغ الطويل عام ٢٠٠٨ بحكم بحث أمير قطر السابق عن دور قياديّ ما ومبادرة تظهره بمظهر المؤثر في الملف اللبناني الشائك. أما اليوم، فلا قطر في موقع القادر على إطلاق مبادرة مماثلة، ولا تركيا أو غيرها. أما السعودية فحالها فعلياً من حال سوريا: هي طرف في الصراع اللبناني، ولديها ما يكفيها من المشاكل. ويستغرب السفير العربي في هذا السياق سكوت الخارجية اللبنانية عن تدخل وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل الفاضح في الشأن اللبناني، وخصوصاً الانتخابات الرئاسية. أما فرنسا فلا يتعدى فعلياً دورها في الاستحقاق الرئاسي سوى الحديقة الخلفية للرئيس سعد الحريري الذي يجتمع فيها مع زواره، من دون أن يكون لها أي كلمة في الاستحقاق الرئاسي. وعليه، ليس بين القوى التي دأبت على الاهتمام بالملف الرئاسي من يكترث فعلاً لمصير نافورة القصر حين يغادره سليمان.
8 آذار: لا تكرار لفخّ سليمان
محلياً، تبدو قوى ٨ آذار، بحسب أحد النواب السابقين، متصالحة مع نفسها في اعتراف كل مكوناتها بصعوبة انتخاب رئيس لا يحظى بموافقة قوى ١٤ آذار. أما «١٤ آذار» ففيها من يوهم نفسه بأن في وسعه انتخاب رئيس لا يحظى بموافقة ٨ آذار، وهذا مستحيل.
حسمت قوى ٨ آذار أمر تكتلها حول العماد ميشال عون، وبات واضحاً أن ما من مرشح خلفيّ جديّ في حسابات حزب الله والنظام السوري. فكل تسريبات السفارة السورية تشير إلى أن عون رجل المرحلة بما تشهده من توازن رعب مع تقدم بسيط للمحور الإيراني ـــ السوري، أما مستقبلاً فلا شيء يوحي بصمود هذا التوازن ووجوب أخذ رأي السعودية بالتالي في الاعتبار. ويبدو واضحاً في هذا السياق أن قوى ٨ آذار، مهما بلغ الضغط، لن تقع في فخ الرئيس ميشال سليمان مجدداً، ويستحيل أن توافق على حكم يحتمل ولو واحد في المئة أن ينحاز ضدها مستقبلاً. ويشير أحد وزراء هذا الفريق السابقين في ما يخص العماد جان قهوجي إلى جلوس الأخير اليوم على غرفة أمنية لمكافحة الإرهاب يجرّها حصان وبغل، لا أحد يعرف أي طريق سيسلك في حال افترقا مجدداً وذهب كل منهما باتجاه.