IMLebanon

فلسطينيو الـ 48 حمّلوا الراعي قضية تهويد كفربرعم لرفعها إلى الفاتيكان

آمال شحادة

دموع أم جوزيف، كانت لا تزال ترطب وجنتيها، وهي تودع موكب البطريرك بشارة بطرس الراعي، العائد إلى بلاد الأرز. لكنها تصر على انها دموع الفرح: «انا الآن مطمئنة الى أن العرب لم ينسوا برعم. والكنيسة تذكر برعم». الحلم الذي حملته هذه المرأة، طيلة عشرات السنين، لم يتحقق بعد ومن الصعب ان نراه يتحقق في القريب، لكنها رأته يقترب أكثر على أثر هذه الزيــارة. فالحلم الفلسطيني بالعودة، يحتاج إلـــى مناصرين. ووقوف الراعي نصيراً لحق عــودة كفربرعم، يبعث في نفسها الارتياح. وكـــما قال مطران اللاتين بولس ماركوتسو، فإن اهمية الزيارة تكمن في اننا نريد ان نصمد ونثبت وجودنا على هذه الارض والبطريرك الراعي أتى لكي يثبتنا».

جوزيف نما وترعرع على كتفي أمه وهي تسير في مقدم التظاهرات الشعبية المطالبة بالعودة الى قريتها. ويشارك في تمويل القضايا المرفوعة في المحاكم لاستعادة القرية المهجرة وأراضيها المنهوبة. وعندما يسمع ان هناك من يرى في زيارة الراعي تطبيعاً مع اسرائيل، ينتفض غضباً ويقول: «ألم يشبع هؤلاء من المزايدات التافهة؟ متى يحسون في وجعنا؟ متى يفهمون اننا انتظرنا هذه الزيارة عشرات السنين، لأننا نريد لكنيستنا أن تلعب دوراً في رفع الظلم عنا».

ومثل جوزيف وأمه يوجد آلاف من مشردي برعم واقرث وغيرهما من البلدات التي تعاني. فهناك حوالى 300 ألف عربي فلسطيني مشرّدون داخل الوطن. أجدادهم عبروا النكبة عام 1948 من دون أن يرحلوا، لكن حكومات اسرائيل تمنعهم من العودة الى قراهم. يسكنون في الجليل والساحل. يشاهدون قراهم كل يوم، والبعض منهم يسكن على بعد مرمى حجر من قريته ولكنهم محرومون من الدخول اليها. بيوتهم دمرت بالديناميت أو الجرافات، لكن حلمهم بالعودة لم يدمر… بل هو حي وملتهب. يتغذى من كل خطوة نضالية ومن كل تضامن معنوي او مادي، وزيارة الراعي كانت بمثابة تظاهرة تضامن صريحة مع نضال أهاليها المستمر من اجل العودة ورافعة للحضور العربي، الاسلامي والمسيحي، في الأراضي المقدسة. وإعلانه الصريح وعلى الملأ نقل ملف هذه القرية الى حاضرة الفاتيكان ومن هناك الى المجتمع الدولي لمتابعة القضية يحقق تقدماً في هذه القضية الشائكة، وأي تقدم فيها يشكل إنجازاً لمجمل قضية عودة المهجرين، الذين يحملون ملفهم منذ عام 48 ويواصلون نضالهم على ارض هذه الــقرية حتى اليوم. والمعروف ان السلطات العسكرية الاسرائيلية التي دخلت القرية فــي تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1948، كانت طلبت من مخاتير القرية ان يرحل السكان عنها «فقط لمدة اسبوعين»، وسلّمهم المسؤولون أمراً خطياً يفرض عليهم التواجد على بعد خمسة كيلومترات. وفسر الجيش الاسرائيلي هذه الخطوة بأنها خدمة لأمنهم لأنه ينوي استكمال احتلال الجليل ويتوقع معارك حربية في المكان.

رفض قرار المحكمة

وقد تشرد أهالي القرية شمالاً وجنوباً، وتوفي منهم سبعة أطفال بسبب ذلك. وطال التشرد، لأن الجيش لم يف بوعده. فأقاموا لجنة تمثلهم راحت تنظم نضالات بهدف العودة، وعندما فشلت جهودهم توجهوا عام 1951 الى المحكمة الاسرائيلية، ونجحوا في استصدار قرار بالعودة. لكن اسرائيل رفضت تنفيذ القرار حتى يومنا هذا. بل انها في عام 1953 أقدمت على هدم بيوت القرية عن بكرة أبيها، ولم يبق منها سوى مبنى الكنيسة وبعض الشواهد على فلسطينيتها. وأعلنت المنطقة عسكرية فلم تسمح لأحد منهم بالوصول اليها ولا حتى للرهبان.

لم يخضع مهجرو كفربرعم على مر سني التهجير، بل اتخذوا أشكالاً مختلفة من النضال، كالاعتصام في القرية، وترميم المقبرة ودفن موتاهم فيها، وترميم الكنيسة وإجراء الطقوس الدينية والأعراس فيها، ثم أقيمت «حركة العودة» من الجيل الثاني للنكبة، فأقامت مخيمات صيفية ونشاطات تربوية وتثقيفية للجيل الثالث، وهؤلاء بدورهم يقودون اليوم المعركة ويقيمون البرامج المختلفة على ارض القرية المهجرة وينظمون المخيمات للجيل الرابع من هؤلاء المهجرين. وقد قرروا مواصلة الاعتصام على ارض القرية، حتى يتوصلوا الى حل يضمن عودتهم. وكل هذه البرامج تشكل استفزازاً لإسرائيل، بخاصة انهم يحظون بدعم الكنيسة ووصول البطريرك الراعي، وسط جمهور واسع لم يقتصر على اهالي القرية المهجرة او اهالي قريتي اقرث والمنصورة المهجرتين، وسكانهما من الموارنة، بل مختلف البلدات العربية، وهذا تعبير صارخ عن الدعم لهذه القضية، وهو أمر لا يروق لإسرائيل.

ويرى المحامي ميشال عون، أحد الناشطين في المعركة من أجل عودة برعم، أن زيارة الراعي تاريخية جاءت لتثبيت الحق في وجه الباطل. وأعرب عن سروره من الوعد الذي قطعه في أن يتبنى الفاتيكان طرح قضية برعم على بساط المجتمع الدولي لأجل وضع حد للتشرد وإيجاد تسوية تضمن عودة اقرث وكفربرعم. ويقول: «صحيح ان هذه الزيارة حددت كزيارة رعوية دينية، ولكنها تحمل الكثير من الرموز السياسية التي تصب في معركتنا الوطنية. وقد أفلح الرئيس الفلسطيني في ادراك هذا الرمز».

والقضية ليست عاطفية وحسب. فالقوى السياسية التي تقود الأحزاب الوطنية للمواطنين العرب في اسرائيل، المعروفين بفلسطينيي 48، استقبلوا الراعي بترحاب شديد ووجدوا في زيارته عوناً لهم في النضال ضد سياسة «فرّق تسد» التي تديرها حكومة اسرائيل وتسعى الى سلخ المسيحيين عن بقية أشقائهم الفلسطينيين من المسلمين والدروز. بعضهم سافر الى عمان، لينضم الى موكبه مع دخوله الأراضي المقدسة. وبعضهم الآخر شارك في حفل الاستقبال المهيب الذي أقامه الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في بيت لحم على شرف غبطته، والذي قدم فيه عباس وسام «نجمة القدس» للراعي. كانوا واعين للانتقادات التي صدرت من بعض القوى السياسية والاعلامية في لبنان، ولكنهم وقفوا الى جانب التقدير الفلسطيني الرسمي للزيارة، باعتبارها «بداية فك الحصار الاحتلالي عن القدس»، كما قال عباس. ورفضوا الانجرار وراء المزايدات ومحاولات التشكيك «التي مللناها في تاريخنا الوطني منذ ثورة 1936 ولا نكترث لها اليوم، ونحن نغوص في القرن الحادي والعشرين»، كما قال أحد الاعلاميين الفلسطينيين المخضرمين.

وقد انضم اليهم لفيف من رجال الدين المسلمين والمسيحيين والدروز، الذين استقبلوا الراعي في عكا وحيفا بحفاوة. ومعهم الألوف من مستقبليه على الصعيد الشعبي.

الصمت الاسرائيلي

الصمت الاسرائيلي على زيارة البطريريك لم يكن مجرد صدفة. فإسرائيل تقف متفرجة، لأن هناك من وضعها – أي وضع اسرائيل – في مركز الحدث. الراعي يأتي ليلتقي رعيته ويشارك في استقبال البابا فرنسيس في الأراضي المقدسة، ويقيم تظاهرة تحدٍ لسياسة التشريد الاسرائيلية، وفي لبنان يتهمه البعض بالتطبيع مع اسرائيل. لماذا لا تستفيد من مهاجمة الراعي؟ الزيارة، وكما رأتها غالبية فلسطينيي 48، كانت بمثابة تظاهرة تضامن مع كل من يعاني الظلم. وكانت صرخة أخرى ضد سياسة التهويد.

والأمر لا يقتصر على زيارة الراعي لكفربرعم. فقد تحولت الزيارة بمختلف محطاتها الى مجموعة تظاهرات ضخمة بقيادة الكنيسة ومشاركة القوى الوطنية من كل الطوائف والشرائح لدى فلسطينيي 48، ضد السياسة الاسرائيلية. حتى دعوته الى المصالحة مع اللبنانيين الهاربين الى اسرائيل وإعادتهم الى لبنان، لم ترض اسرائيل، التي أذلتهم عند وصولهم عام ألفين وقسمتهم الى مستويات عدة، قسم منهم ضباط كبار تم التعامل معهم كضباط اسرائيليين متقاعدين ومنحتهم الامتيازات. وهناك قسم عاشوا بشكل مهين، ففضلوا السجن اللبناني على البقاء في اسرائيل. ويوجد قسم آخر ممن غادروا الى اوروبا وأميركا وأستراليا. وعلى رغم التحفظ في القول انهم ليسوا خونة او عملاء، لكن هناك من تفهم خطوة الراعي. فنحن نتحدث عن حوالى ثلاثة آلاف لبناني، وهؤلاء ليسوا جميعاً ممن خدموا في جيش لحد المتواطئ مع اسرائيل. وإن كان منهم من تواطأ مع اسرائيل، فإن زوجاتهم لسن مذنبات وأطفالهم ليسوا مذنبين. فلماذا يجب ان يكبر هؤلاء الاطفال في ظل عملية تهويد لهم.

رفض الراعي

مجموعة من مؤيدي المخطط الاسرائيلي لتجنيد الشبان المسيحيين في جيش الاحتلال الاسرائيلي، حاولت التقاء البطريرك فرفض. وحرص قادة العمل الوطني لفلسطينيي 48 على إبعادهم من طريقه. وهذا أيضاً لم يرق لإسرائيل كما لم يرق لها الموقف الذي كرره الراعي في اكثر من مكان تواجد فيه بدعوته الشباب الى عدم الهجرة والتشبث بالارض. فهي دعوة تأتي من شخصية مثله، في ظل السياسة الاسرائيلية الهادفة الى تهجير الشباب الفلسطيني. وفي هذا الجانب كانت اقوى رسائله قبل ان يغادر المنطقة فقال:» ارضنا هي هويتنا ورسالتنا وتاريخنا. ويجب ان نتمسك بها. الصعوبات طارئة اليوم لكنها تمر. يجب علينا عدم ترك ارضنا لأننا على هذه الارض كتبنا تاريخنا».