IMLebanon

فنيدق: مع الجيش… ولكن!

عندما يكيل نواب الاتهامات الى المؤسسة العسكرية، أثناء خوضها حرباً ضد مسلحين قتلوا وجرحوا وخطفوا جنوداً لها، تحت مزاعم مذهبية، ولأن «كتر الدق يفك اللحام»، لا بد للاتهامات أن تلقى آذاناً صاغية بين أناس يقدمون الشهداء في صفوف الجيش ويدافعون عمن يقتله. هو انفصام يتجلّى واضحاً في بلدة فنيدق العكارية

تكاد لا تمر حرب على الجيش اللبناني، إلا تدفع فيها بلدة فنيدق العكارية عدداً من الشهداء. نحو 3 آلاف شاب من أبنائها منضوون في الجيش، فيما «تصدّر» البلدة، في الوقت عينه، قلة من الشبان الذين يخرجون للقتال في سوريا، إلى جانب مجموعات مسلحة ارهابية اعتدى عناصرها أخيراً على عناصر الجيش في عرسال.

صمت حاد يخيّم على فنيدق. «الناس خايفة، والوضع ما بيطمن»، يقول سائق سيارة الأجرة. يهز أحد الركاب رأسه مثنياً على كلام السائق، ثم يرفع يده ليدل على شابة. «ليك يا حرام نازلة على عزاء ابن الكك». يبدأ الرجلان بـ «سنسلة» شجرة العائلة لمعرفة صلة القرابة بين الشابة المتشحة بالسواد، وشهيد البلدة علي الكك، الذي سقط في المعارك التي دارت في عرسال بين الجيش ومجموعات مسلحة. صورة الشهيد مرفوعة على أحد أعمدة الكهرباء عند مدخل البلدة. يقابلها، شعار تيار المستقبل، مرسوما على جدار احد المنازل. حتى بات الرسم والصورة بمثابة إشارة تعريف للغرباء على انهم دخلوا فنيدق، اذ إنه ما من لائحة على مدخلها تدل عليها، على عكس البلدات المجاورة، كحرار ومشمش.

داخل البلدة صمت تخرقه بين حين وآخر أصوات السكان.

ذهاب شبان للقتال في سوريا تنفيس للاحتقان الذي يزرعه النواب في نفوسهم

قبالة صيدلية البلدة، امٌ تنبّه ابنها العسكري الذاهب للالتحاق بمركز خدمته وهو يرتدي بزته العسكرية، خوفاً من أن يتعرض له مسلحون متشددون في طرابلس: «ما تلبس بدلتك يا امي انت وعلى الطريق، سماع من الله ومني». المنازل هنا ملاصقة بعضها لبعض على نحو يحكي عن ضيق حال ابناء البلدة، الذين يثقل الفقر كاهلهم. برغم ذلك، تطغى السياسة على نقاشات الأهالي. في مقهى في البلدة، يبلغ التحليل السياسي مداه. يتحدث المجتمعون عن الأوضاع الراهنة، ولا سيما تداعيات المعارك في عرسال. يشددون على أنهم يدعمون الجيش. «لحم كتافنا من خيرو»، يقول أحدهم. ليرد آخر «نحنا مستعدين ندافع عن الجيش بكل شي منملكو، بس الجيش لازم يكون عادل معنا كمان!». يجمعون على صيغة واحدة للكلام: «نحن مع الجيش… ولكن». يجذب الحديث انتباه عجوز تمر بالمكان. «تحتدّ» بلهجتها العكارية: «الواحد منا ما بخلي واسطة ما بيعملها حتى يضب ابنو بالدولة، بس هيدا العسكر صار حاكمو حزب الله».

العتب على المؤسسة العسكرية كبير، فالقيادة بنظرهم تكيل بمكيالين. يكرر الحاضرون عبارات نواب المنطقة وزعمائها، الى درجة قد يخال المرء نفسه جالسا في حضرة النائب معين المرعبي او خالد ضاهر.

يستشهد رئيس البلدية خلدون طالب بالأحداث في سوريا لـ «يبرهن» كيف أن الجيش «لا ينصف أهل السنّة». يقول: «يذهب حزب الله بسلاحه وعتاده ليقاتل في سوريا، ولا يهز الجيش عصا بوجهه. أما إن خرج أي شخص من شبابنا ليقاتل هناك، فإنه يلقى القبض عليه بتهمة الإرهاب». يذهب طالب إلى حد الدفاع عن الشابين علاء كنعان ومحمود زهرمان، اللذين أوقفهما الجيش لحيازتهما أحزمة ناسفة وقنابل كانا يصنّعانها في إحدى مغاور البلدة البعيدة، ويزودان بها انتحاريين. يرى أن «الشباب مظلومون. صرلن أكتر من ثلاثة أشهر أهاليهم ما عرفو عنهم شي. بالصدفة عرفنا إنو علاء كنعان موقوف بسجن الريحانية التابع للشرطة العسكرية، أما محمود فما منعرف عنو شي بالمرة».

لا غرابة في دفاع رئيس البلدية عن موقوفَين عثر في حوزتهما على احزمة ناسفة. فابنه، رائد طالب، اعتقلته استخبارات الجيش بتهمة التخطيط لتفجير المدرسة الحربية، وأوقف في سجن رومية لمدة عام ونصف عام، خرج بعدها ليقاتل في صفوف «الثورة السورية». لدى سؤاله عن ابنه، يرد: «خليه بسوريا. اريحلي واريحلو. انا رئيس بلدية ما بيناسبني كل شوي يدقلي حدا يقلي تعا جيب ابنك من المخفر، وتعا خدو من الحبس. الولد ما كان إلو علاقة بالإرهاب بالمرة. بس لما شلحولي ياه بسجن رومية مع كل شي في ارهابيين بالعالم، اكيد رح يتأثر فيهن وطلع ارهابي فعلا. حتى انا خفت منو».

والدة علاء كنعان، الأرملة الخمسينية، تناشد الدولة «القليل من العدل». تقول: «عندي 8 ولاد، وكان كل اتكالي على علاء. ما بعرف عنو شي. من فترة أخدو أخوه الأصغر منو أيمن. التنين صاروا بالحبس وكلو ظلم بظلم». تشير إلى ابنها الأصغر: «كل اتكالي على هيدا. عم يشتغل هلق ميكانيسيان». وتضيف أن لها ابناً عسكرياً في الجيش: «عندو عيلة كبيرة، أنجأ معيشها».

ما يدور على ألسنة أهالي فنيدق يشير الى مدى تأثرهم بخطاب تيار المستقبل، وتحديدا «ثلاثيّه النيابي» خالد الضاهر ومعين المرعبي ومحمد كبارة. في البلدة انفصام بين «حب الجيش» والـ«ولكن»، وبين من يقاتلون الجيش ومن يقاتلون في صفوفه. في معركة عرسال الأخيرة، هناك أربعة من أبناء البلدة في عداد المخطوفين والمفقودين (المخطوفان احمد السيد وحسن عمار، والمفقودان خالد موري وسليمان عمر)، كما خسرت البلدة شهيدها علي الكك، وجرح خمسة عسكريين اصاباتهم

خطرة.

يغمز البعض من قناة تيار المستقبل. يقول أحد السكان إن للتيار «دوراً كبيراً في العزف على الوتر الطائفي. تتمحور جل خطاباتهم حول حماية أهل السنة من الحرب المعدة ضدهم في المنطقة، وهو ما ترجمه عدد من نواب المستقبل أثناء معارك الجيش في عرسال». يضيف: «كيف يتوقع هؤلاء أن يُصرف هذا الكلام في الشارع؟ التحريض الكلامي سيقابل بأفعال تنسجم معه، وما ذهاب عدد من الشبان إلى سوريا سوى تنفيس للاحتقان الذي يزرعه هؤلاء في نفوسهم».

الكلام عينه يتكرر على لسان رئيس البلدية. يرى طالب أن تيار المستقبل يذهب إلى حد اتهام من لا يوافق على كل من لا يختار مرشحيهم في أي معركة انتخابية بـ «التشيّع والمشاركة في ضرب أهله من السنة». ويردف ممازحاً: «أساساً فنيدق ما بتشوف خيرات تيار المستقبل إلا كل أربع سنين مرة».

من جهته، يرفض منسق التيار في عكار سامر حدارة هذه الاتهامات. يؤكد أن «ما يمثل تيار المستقبل هي مواقف الشيخ سعد الحريري، وهي مواقف معتدلة، هدفها حماية لبنان ومن ضمنه المؤسسة العسكرية. لا علاقة لنا بأي أصوات تشذ عن الموقف الرسمي للتيار الذي يمثله أولاً وأخيراً رئيسه». ويضيف: «ما أنجزه على الصعيد الخدماتي والإنمائي للبلدة لم ينجزه أي فريق آخر. وبالنسبة إلى الأزمة السورية، كنا ولا نزال نرفض مشاركة أي طرف لبناني فيها، ولا علاقة لنا بذهاب الشباب المتحمس إلى سوريا».

النائب السابق وجيه البعريني، الذي لا يزال يحظى بتأييد شعبي واسع في فنيدق، رأى «ان ما يحدث في المنطقة العربية صراع سعودي ـــ قطري بالدرجة الأولى، ونحن نسعى للتصدي له»، مشيراً إلى أن «كل العوامل مجتمعة تتحمل مسؤولية مغادرة شبان من عكار للقتال في سوريا، وهم في الغالب لا يفقهون شيئا في الدين والإسلام، ولا يعرفون لماذا يقاتلون أو من يقاتلون في ظل الحروب والخلافات التي نشبت في صفوف المجموعات المسلحة»، مؤكداً «أننا نتواصل مع أهالي البلدة لتجنيب شبابهم الدخول في الصراع السوري».