تتضاءل أهمية مشاركة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) في ما يجري في العراق أمام هول المتغيرات التي تنذر الأحداث بها، وتتراجع بالقدر ذاته مقولات التدخلات الخارجية، الإيرانية خصوصاً، مقابل ما يشير إليه الواقع العراقي من خطر داهم.
شهيرة هي مقولة الكاتب السوري الراحل ياسين الحافظ عن أن حرب 1967 جلب فيها الجنود العرب هزيمتهم من داخل مجتمعاتهم إلى الجبهات ولم يحملوها من هذه إلى داخل بلادهم ومجتمعاتهم. كانت الهزيمة هي التجلي الأعلى للفشل العربي الشامل في بناء الدولة والمجتمع والتنمية وغياب الحريات والفساد المعمم.
تمكن اليوم قراءة ما قاله الحافظ في ضوء جديد. بعد ثلاثة أعوام من الانسحاب الأميركي من العراق، وبعد أحد عشر عاماً من سقوط نظام صدام حسين، أخفق العراقيون في التوافق على حد أدنى من القواسم التي تجمع مكوناتهم العرقية والطائفية والسياسية. انهار الوهم الأميركي الذي روج له جورج دبليو بوش عن «بناء الأمم» وتكرار التجربتين اليابانية والألمانية في العراق وأفغانستان. وجاءت سلسلة من الحكومات التي تحركها دوافع عصبوية وثأرية ويقودها أشخاص متواضعو الكفاءات آثروا مصالح الحزب والطائفة على بذل أي جهد لتوسيع القواعد السياسية للنظام الجديد.
وعلى رغم صعوبة استبعاد العامل الخارجي في منطقة تتداخل فيها وتتضافر مصالح شديدة التناقض، تبدو فضيحة هزيمة الجيش العراقي أمام مسلحي «داعش» واتساع المناطق التي سيطر عليها هؤلاء، إعلاناً عما يتجاوز التلاعب الإقليمي وحتى دور العشائر والقبائل السنّية المنتفضة على احتكار الشيعة للسلطة والموارد.
وإذا كان ما يجري في نينوى والموصل وكركوك وتكريت يذكّر بهزيمة 1967 من جهة سرعة التخلي عن القتال والفرار أمام العدو، من جهة، فإنه يقول إن عشرات الألوف من الجنود العراقيين الذين خلعوا بزاتهم الرسمية وألقوا السلاح، لم يكونوا ينظرون إلى المناطق التي انسحبوا منها على أنها «الوطن» الذي ينتمون إليه أو تعنيهم حمايته بأي شكل كان. كانوا غرباء على أرض غريبة لا تربطهم بها وبأهلها أي صلات، ما سهل عليهم تركها والفرار إلى مناطق ليست أقل عداء هي تلك التي يسيطر عليها البشمركة الأكراد.
يمكن هنا الحديث عن نهاية «سايكس– بيكو» وكل الاتفاقيات التي أعقبتها ورسمت بواسطتها خرائط المنطقة. ويجوز التكهن بدور إيراني لاحتواء الحراك السنّي المناهض للمالكي، بيد أن ذلك لا يتناقض مع حقيقة انهيار الدولة العراقية بعد نظيرتها السورية، وتفككهما إلى مناطق خارجة عن كل سيطرة أو نظام حكم من الأصناف التي عرفها المشرق العربي في الأعوام المئة الماضية.
ربما بات علينا توقع أشكال حكم جديدة تتلاءم مع النتائج التي جرّها فشل بناء الدولة العربية. أشكال تأخذ في الاعتبار النفوذ الذي لا يضاهى للدين والعشيرة في بيئة تزداد انغلاقاً وعزلة عن عالم لا يبالي بمآسيها. بهذا المعنى تكون «الدولة الإسلامية في العراق والشام» هي الرد الذي أفرزته مجتمعات مأزومة على حصار وتهميش وتهديد بدأ قبل مئة عام. ويشي ذلك بأن فشل الثورات العربية في الوصول إلى عمق وجذر التناقضات السياسية والاجتماعية قد انعكس نهوضاً لقوى لا تختلف في الجوهر عن أنظمة الاستبداد السابقة.
وها نحن نشهد جابي التاريخ الذي لا يرحم ولا يغفل يعود مطالباً بفواتيره المتأخرة.