تواجه كل من يقارب شأناً سياسياً بالنقد والتحليل اليوم تهم جاهزة بالانحياز إلى طرف دون آخر وبتبني وجهة نظر معادية ومناهضة لصاحب التهمة، في وقت تزداد الظواهر المحيطة تعقيداً وتركيباً واستعصاءً على المتابعة والتوثيق.
تُقدم الحرب في سورية مثالاً مدرسياً على طريقة التفكير المذكورة يبدأ من اسمها، فهي عند معارضي النظام ثورة مكتملة الشروط والعناصر وكل من يطلق عليها تسمية «الحرب الأهلية» يعرض نفسه إلى الشك في موقفه المناهض لنظام بشار الأسد ويرمي من وراء التسمية هذه إلحاق الصفة الطائفية بالثورة التي قامت للمطالبة بالحرية والكرامة. وجلي أن أصحاب هذا الرأي يتناسون الروابط البديهية بين الثورات وبين الحروب الأهلية، وكون الأولى تمهد دائماً للثانية وأن كل ثورة تنطوي على مقومات الحرب الأهلية، حتى إن لم تندلع هذه بالصيغة المعهودة. المتمسكون برفض مقولة إمكان تحول الثورة إلى حرب أهلية سيجدون أنفسهم في معسكر بعض ألد خصوهم، أولئك الذين يدينون الثورة لأنها لم تستكمل عناصرها اللازمة ولم تطبق الوصفات التي تحدثت عنها الكتب. وليس سراً أن هؤلاء هم الأشد عداء للثورة التي حطمت كل خرافاتهم وجرفت بواقعيتها المفرطة تصوراتهم المتهافتة عن أنفسهم ومواقعهم وأدوارهم.
مشكلة اللاجئين السوريين تعطي نموذجاً آخر عن طريقة التفكير الثنائية هذه. فاللاجئ السوري المعياري مضطهد من نظام الأسد الذي طرده من دياره، ومن مواطني وسلطات الدول التي يقيم فيها مضطراً حيث يخضع لكافة أشكال التمييز العنصري والاستعلاء وعقد التفوق. يغيب عن هذه الصورة أن الدول التي استضافت العدد الأكبر من اللاجئين، كيانات هشة سياسياً واقتصادياً وتعاني منذ أعوام طويلة أزمات عميقة في كل أوجه الحياة العامة فيها. وفي الوقت الذي يظهر اللاجئ السوري المعياري في وقت واحد كضحية للعنصرية وكمنقذ لاقتصادات دول اللجوء التي يشغل فيها أمواله ويقدم خبراته، يتجاهل أصحاب هذا التصور أن اللاجئ هو إنسان قبل كل شيء يحمل معه خصوصياته وطرق عيشه إلى البلدان التي يلجأ إليها والتي ليس بالضرورة أن تتلاءم مع ما اعتاد السوريون عليه في بلدهم الأصلي.
الأهم أنه لن يكون بعيداً لا عن شبكات ومافيات الاستغلال الإجرامي للمعاناة البشرية ولا عن التوظيف السياسي للسلطات وللمعارضات في صراعاتها المحلية والداخلية. وبذلك، يكون على اللاجئ أن يؤدي في آن واحد دور المخلّص والجلاد والضحية، بحسب ما تتغير معطيات البيئة المحيطة.
في لبنان على سبيل المثال، هو مخلّص لبعض الأوساط التي تراهن على اللاجئين كعنصر حاسم في التصدي لنفوذ «حزب الله»، وهو جلاد بالنسبة إلى آخرين يرون أن اللاجئين هم طليعة موجة التكفير والقتل والتهجير التي تعم المنطقة، وهو ضحية عند من يرى الجانب الإنساني فقط في هذه المعاناة الهائلة.
كان الراحل حسن حمدان «مهدي عامل» يصف هذا الضرب من اختزال الواقع والحقيقة إلى اللونين الأبيض والأسود «بالتفكير على طريقة إما وإما»: إما خير وإما شر. إما ضحية كاملة وإما جلاد. إما «داعش» وإما بشار الأسد.
لا ينبغي أن يُفهم من الأسطر أعلاه انحياز إلى «نسبية معرفية» تقر بوجود حقائق متساوية في القيمة الأخلاقية ويتساوى فيها القاتل والقتيل تبعاً لوجهات نظر كل طرف هي «حقيقته» التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار وأن تلقى القبول من الجميع، بل هي تأكيد على صعوبة الواقع الحالي والحاجة الملحة إلى التفكير فيه من خارج الأطر السابقة وبعيداً عن الأفكار المسبقة الجاهزة.