IMLebanon

في العراق ولبنان ..هل تغيّرت إيران؟

 

يشهد العراق تطوّرات متلاحقة تفرض الحذر الشديد على كلّ من يسعى إلى فكّ ألغازها. من بين هذه التطورات تنحي نوري المالكي الذي كان يعتقد أنّه سيكون قادراً على البقاء في موقع رئيس الوزراء لولاية ثالثة.

قبل كلّ شيء، كان طبيعياً أن يتنحّى نوري المالكي عن اصراره على البقاء في موقعه، خصوصا بعدما تخلّت ايران عنه من منطلق أنّ وجوده في هذا الموقع يضرّ مصالحها لا أكثر. ايران لا تؤمن سوى بما تفرضه مصالحها. أمّا المالكي، فهو مجرّد تفصيل في خضمّ تلك المصالح، خصوصا أنّها تمتلك خيارات كثيرة غيره.

ما ليس طبيعيا أنّ يصر الرجل على أنّه حقّق انجازات كبيرة منذ تولى الموقع الأهمّ في العراق قبل ثماني سنوات. في مقدّم ما أصرّ عليه المالكي اخراجه «القواّت الأجنبية» من العراق. تحدّث عن أن مجموع تلك القوات كان يزيد على مئة ألف عسكري. لم يلفظ كلمة أميركي، ربّما أراد الحفاظ على خط العودة مع واشنطن.

هل اخراج «القوّات الأجنبية» انجاز يفتخر به سياسي عراقي يعرف أنّه لولا هذه القوات، أي القوات الأميركية تحديدا، لما كان هو نفسه في السلطة في يوم من الأيّام، ولما كان صدّام حسين ونظامه العائلي ـ البعثي رحلا بالطريقة التي رحلا بها؟.

رحل صدّام ونظامه كي يخلفهما نظام أفضل من الناحية النظرية فقط، لكنّه أسوأ بكثير على الصعيد العملي. هذا على الأقلّ ما يؤكّده الواقع وتؤكّده صورة المالكي وهو يلقي خطاب التنحّي في مشهد لا يعكس إلّا مدى الإصرار على تغليب الرؤية المذهبية على كلّ ما عداها في عراق الغد. هل يمكن بناء دول فيها تعدّد عرقي ومذهبي وطائفي على نظام لا يؤمن سوى بالمذهبية من جهة والرضوخ لإيران من جهة أخرى؟.

يمكن أن يدوم هذا الأمر لفترة ما. ولكن في المدى الطويل، يمكن اعتبار الاعتماد على المذهبية وعلى ايران، بمثابة الصيغة الأفضل لتقسيم البلد وتفتيته وادخاله في حروب داخلية لا يمكن أن تؤدّي سوى إلى كوارث تتجاوز حدوده في كلّ الاتجاهات، بما في ذلك ايران نفسها.

لدى التعاطي مع الخطاب الوداعي للمالكي، يفترض النظر إلى ما هو أبعد من النصّ، خصوصا أنّ تنحّي الرجل جاء بعد تشابك لعوامل عدّة جعلت ايران تضحّي به حفاظا على مصالحها. ما حصل في العراق شبيه بما حصل في لبنان، حيث اضطرت ايران في مرحلة معيّنة، قبل نحو خمسة عشر شهرا تقريبا، إلى التضحية بالحكومة التي فرضتها برئاسة نجيب ميقاتي الشخصية السنّية الآتية من طرابلس. كانت تلك الحكومة حكومة «حزب الله» التي استُبعد منها أي سنّي يمتلك صفة تمثيلية واخُتزل مسيحيو لبنان بوزراء تابعين للنائب ميشال عون ذي الارتباطات المعروفة.

قبلت ايران بالرئيس تمّام سلام على رأس الحكومة وقبلت بمشاركة «تيّار المستقبل» فيها بشكل قوي إلى حدّ ما، إذ تولّى النائب السنّي البيروتي نهاد المشنوق حقيبة الداخلية والمدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي العدل.

ارادت ايران عبر قبولها بحكومة تمّام سلام، المعروف باعتداله وتمسّكه بلبنان السيّد والحرّ والمستقلّ، تحييد سنّة لبنان. قبلت عملياً بحكومة يصفها الرئيس سعد الحريري عن حقّ بأنّها حكومة «ربط نزاع» من أجل خدمة مصالحها الإقليمية، خصوصاً في سوريا. أبقت لبنان من دون رئيس للجمهورية كي تؤكّد أنّها ما زالت اللاعب الأساسي في «الساحة» اللبنانية. كان هدفها اراحة «حزب الله» في الداخل اللبناني من أجل تمكينه من الانصراف إلى مهمّته الجديدة المتمثّلة في القتال في سوريا دعماً لنظام طائفي أقلّوي مرفوض من شعبه، بأكثريته الساحقة.

بالنسبة إلى ايران، يظلّ العراق أهمّ من لبنان. لذلك، ثمّة حاجة إلى مناورة من نوع آخر. من دون العراق، لن تتمكّن ايران من لعب الدور الذي تطمح له على الصعيد الإقليمي. لن تتمكّن حتّى من دعم النظام السوري، الذي أصبح في جيبها، بالطريقة التي تريدها. ففي الفترة الأخيرة لعب الدعم العراقي للنظام السوري، وهو دعم بالرجال والمال والسلاح على كلّ المستويات، دوراً حاسماً في تمكين هذا النظام من الاستمرار في ذبح شعبه.

هل يمكن القول أنّ الإدارة الأميركية وقعت مرّة أخرى في فخّ ايراني؟ ثمّة مؤشر إلى ذلك. فمثلما أن ايران استخدمت القوات الأميركية من أجل السيطرة على العراق، نراها الآن تستعين بسلاح الجو الأميركي لضرب تنظيم ارهابي متخلّف اسمه «داعش» خدمة لمآربها العراقية.

لم تسأل الإدارة الأميركية عن طبيعة «داعش». لماذا لم تتحرّك عندما هدّد «داعش» مسيحيي العراق وقبل ذلك السوريين أنفسهم، بما في ذلك المعارضة الوطنية و«الجيش الحر»؟.

من أجل أن يتغيّر شيء ما في العراق وحتّى في لبنان، يُفترض أن يكون حصل تغيير داخل طهران نفسها، تغيير في مجال التخلي عن اثارة الغرائز المذهب خدمة لأغراض سياسية. فليس كافياً إزاحة المالكي وحلول الدكتور حيدر العبادي مكانه. صحيح أنّ العبادي شخصية مختلفة نظراً إلى أنّه ابن بغداد في الأصل واحتك بالغرب الذي عاش فيه ولم يكن من انتاج الأجهزة السورية والإيرانية كغيره من بعض السياسيين العراقيين، لكنّ الصحيح أيضا أن رئيس الوزراء العراقي الجديد ينتمي إلى «حزب الدعوة الإسلامية» وهو حزب نوري المالكي.

سيكون المحكّ سلوك العبادي في الأيام القليلة المقبلة والشكل الذي ستكون عليه حكومته. كلّ ما عدا ذلك سيثير مخاوف من أن التغيير لم يكن سوى تغيير من داخل البيت الواحد لا يمس بالذهنية السائدة منذ العام تاريخ تولي نوري المالكي رئاسة الوزراء…

كانت تهنئة الزعماء العرب للعبادي في مكانها، ولكن من السابق لأوانه الحديث عن تغيير في العراق. التغيير يكون في الذهنية الإيرانية قبل العراقية، وفي الوصول إلى مشاركة الحقيقية في السلطة وفي تعاط مختلف جذرياً مع المكوّن الكردي.

التغيير يكون في التخلص من عقدة التمسّك بالسلطة إلى ما لا نهاية. هل يقبل العبادي أن يكون شعاره العراق أوّلاً، بدل المذهب أوّلاً، حتّى يستحقّ كل الترحيب الدولي والعربي والأميركي والأوروبي الذي لقيه…أم كلّ ما في الأمر مناورة ايرانية جديدة تفادياً لاعتراف طهران بأنّ العراق، أقلّه كلّ العراق، لم يكن ولن يكون يوماً لقمة سائغة يمكن ابتلاعها بسهولة بمجرّد العزف على الوتر المذهبي؟.