هناك مَن ذهبوا للاقتراع لبشار الأسد بدافع الانتماء الطائفي، ومَن صوّتوا بدافع الخوف والسلامة الشخصية، أو بحسابات مصلحية بحتة، بل هناك في الخارج من صوّتوا لتجديد جوازات السفر… مارسوا «حقهم»، لا يريدون أن يفقدوا كل شيء، كما حصل لملايين السوريين الذين فقدوا أحبّاءهم وجنى عمرهم وكل ما يملكون. هو «اقتراع» آخر، مثل عشرات سبقته في سورية، تعوّد فيها المصوّتون أن يتركوا ضمائرهم خارج مراكز الانتخاب ليؤدّوا فعل الخلاص الفردي من عدوانية هذا النظام. هو إذلال آخر لشعب عانى ويعاني من ابتلاءات كثيرة، أصعبها اكتشافه أن لا مبالاة العالم لا حدود لها ولا سقفاً ولا خطاً أحمر.
تلك العدوانية التي تجسّدت على الدوام بـ «تثقيف» الأمن ليكون فظّاً ولا إنسانياً، لا ينفك يستنسخها مما قرأه في كتاب تأسيس اسرائيل. وآخر التطبيقات التي بدأها فعلاً التصرّف بـ «أموال الغائبين» بدءاً بالأرصدة التي أودعها الأهل لصغارهم في المصارف امتداداً الى الأخطر والأهمّ: فتح المنازل الآمنة والمغلقة (وفقاً لما يسمّى «قانون الدائرة الاجتماعية») وإسكان من تختارهم أجهزة النظام فيها. فهناك شاميّون علموا أن إيرانيين يقطنون الآن في بيوتهم، وهناك عائلات أَسكنت أنسباءها المهجّرين في بيوتٍ لها، لكن الأجهزة تطالبهم بالمغادرة بحجة أنهم لا يملكون عقود إيجار، وإذ يحاولون إبرام عقود مع أنسبائهم يقال لهم إن أي عقد جديد ينبغي أن ينال موافقة مسبقة من الأجهزة، ففي كثير من المناطق لم يعد ممكناً السكن إلا بإذن من المخابرات. أما التخريجة الوهمية فتقول إنه سيُصار الى تأجير البيوت بالنيابة عن أصحابها و «تُحفظ» أموالهم في صندوق خاص، أما عشرات آلاف البيوت التي أتى عليها النهب المنظّم فلم يتوافر لأصحابها وحقوقهم أي «قانون» أو صندوق.
ما يخرج من «صناديق الاقتراع» هنا ليس الرئيس الفائز، بل القهر المستدام. القهر المراوح بين القمع النفسي وبين إزهاق الأرواح وسفك الدماء. كانت تلك «انتخابات» لا علاقة لها بأي «شرعية» يطمح اليها الحاكم، وإنما مجرد عملية يثبت النظام من خلالها أن شيئاً لم يتغيّر، فهو يعرف مسبقاً أنه سيفوز وأن العالم لن ينظر إليه على أنه «شرعي»، لكن الأهم عنده هو «عراضة» انتخابية كتلك التي افتعلت في لبنان ليقول للعالم إنه لا يزال قادراً على إخراج كثيرين للرقص والهتاف له وليظهروا كما لو أنهم يحبّونه حتى العبادة وليظهر كما لو أن «شرعيته» الشعبية تصفع العيون. ليس مهماً ما هي الحقيقة، فهو برهن أن الحقيقة مدمّرة. المهم أن يكون المظهر «طبيعياً» في مطابقته لأقصى ما يمكن أن تبلغه علاقة بين قاهر ومقهور.
الرسالة واضحة ومباشرة. الى الشعب المعارض: مستمر في الحكم على رغم كل ما فعلته، على رغم كل الجرائم التي عرفت ووُثِّقَت وتلك التي لم تُعرَف بعد. أذعنوا واعلنوا السمع والطاعة وانقذوا أطفالكم من الموت جوعاً، حافظوا على القليل الذي تبقّى لكم قبل أن نستولي عليه، ولعلكم تنقذون سجيناً أو تستعيدون مفقوداً… والى الموالين: مستمر في الحكم على رغم كل المؤامرات وكل الدول التي وقفت ضدّي، وهذه واحدة من الأزمات التي سنتجاوزها ونخرج منها، وفي المحصلة سيعودون الينا صاغرين… وإلى العالم: عسكرياً الحل عند النظام بدليل التغيير الكبير في خريطة السيطرة لمصلحته، والحل السياسي عنده أيضاً وقد غيّر الدستور وفبرك انتخابات «تعددية»، لكن «الشعب» شاء ممارستها على طريقة الاستفتاء. فحتى المرشحان المنافسان كانا ينتهزان كل ظهور تلفزيوني ليعلنا ولاءهما للسيد الرئيس. لم يستطيعا نسيان مَن أمرهما بالترشّح.
قبل «الانتخابات» وبعدها تبقى «الشرعية» عقدة نقص عند النظام، يسوّرها بأطواق من الكذب والتضليل وبحشود ممن يعرف أنهم ينافقون بإبداء تصديقهم ذلك الكذب. اشتغل النظام دائماً على تمويه النقص في الشرعية، وكان الأسد الأب نجح في تجاوز العقدة شكلياً. أما الأسد الإبن فحاول أن يبني شرعية ذاتية جديدة وحصل على تأييد بعض الشرائح في بعض القطاعات. لكنه ما لبث أن عاد الى القمع، فكلما استشعر نقصاً في الشرعية زاد منسوب القهر. ومع اندلاع الثورة ضدّه انهارت الشرعية تماماً، على نحو سافر لدى معارضيه أو مكتوم ومستتر لدى من يدّعون تأييده. حتى الذين جرى الاتصال بهم من طائفته قالوا «حالنا – كمعارضة – من حال المعارضة الأخرى، فنحن عوملنا مثلهم بالتجريف السياسي الشامل». ولا يزال عبدالعزيز الخيّر مفقوداً، أو مجهول مكان الاحتجاز، منذ خطفه/ اعتقاله فور عودته من زيارة لبكين (صاحبة الفيتو الجاهز المرافقة للفيتو الروسي) وقد لبّى دعوة رسمية وخرج بـ «ضمانة» سيرغي لافروف. كان ذنبه أن حلفاء النظام شرعوا آنذاك (خريف 2012) في البحث عن بدلاء من الطائفة العلوية، والبحث مستمر.
لا شك في أن الانتخابات، معطوفة على الانتصارات العسكرية، تشكّل تحدّياً قوياً للمجتمع الدولي، فهي من جهة تبقي مسألة «الشرعية» مفتوحة، ومن جهة اخرى تكرّس في ذهن النظام أن الإفلات من الأزمة ومن العقاب يبقى متاحاً. في السابق، كان قادراً على الإفلات باللجوء الى «مقايضات» بالمعارضين الذين يؤويهم أو بأوراق إقليمية لا يمنعه «نهج المقاومة» من رميها عند أول مأزق. وبعد النفق الذي أدخله فيه اغتيال رفيق الحريري، عاد فخرج «متصالحاً» حتى مع السعودية، بل حاصلاً على انفتاح من فرنسا بوساطة من قطر. لا بدّ من أنه يعتقد بأن التاريخ سيعيد نفسه، فالدول لا تستطيع تجاهل الأمر الواقع الذي تصنعه القوة. وحتى تاريخ معيّن، أوائل الأزمة، كان النظام قادراً فعلاً على الإفلات، أما الآن فاختلفت الأحوال. هناك عواصم منعت إجراء الانتخابات، مؤكدةً أنها مثل أكثر من ثلثي الشعب السوري لا تعترف بـ «الانتخابات المهزلة» ولا بشرعية نتائجها، وهناك الأمم المتحدة التي لا تستطيع موضوعياً الاعتراف باقتراع يُجرى في ظروف غير معقولة كهذه. ثم إن النظام أصبح هو نفسه «ورقة» بعضها في يد روسيا ومعظمها في يد ايران التي انبرت في الفترة الأخيرة للدفاع عن الانتخابات باعتبار أنها «تعزيز للشرعية» (علي لاريجاني) أو أنها وسيلة لـ «الحل الداخلي» (محمد جواد ظريف).
لا شرعية النظام وعدم الاعتراف بتمثيله سورية بموجب هذه الانتخابات سيكونان عنوان الصراع المقبل على الساحة الدولية. وفي معزل عن احتمالات النجاح في تعليق عضوية «سورية النظام»، التي تعني بدورها قطع الطريق على الأمم المتحدة للعب أي دور في التوصل الى حل سياسي، فإن رفض شرعية النظام سيتخذ أشكالاً عدة ومختلفة. لكن من غير المؤكد أن يحقق أي اختراق سياسي طالما أن مجلس الأمن لم يتمكّن من وضع الأزمة تحت الفصل السابع لتصبح قراراته ملزمة وفاعلة. لذلك يبقى التفاعل مع منطق الأزمة هو ما تبدو الدول الغربية متفقة عليه، سواء بعدم الاعتراف بالانتخابات، أو بإلزام المعارضة تنظيم صفوفها وتطوير أساليب عملها، أو بالأخص إلزام فصائلها العسكرية العمل وفق استراتيجية جديدة بدأت معالمها تتضح من خلال إعادة خلط أوراق المجموعات المقاتلة واصطفافاتها.
في المقابل، سيبادر النظام الى «حل داخلي» مستمد من «شرعية انتخاب الرئيس»، فهو قد يستدعي عدداً من «معارضي» الداخل والخارج الى حكومته المقبلة، وقد يسلّط الأضواء على التخلي عن كمٍّ من الصلاحيات ليس بينها ما يتعلق بالأمن أو الجيش، وقد تكون لديه إجراءات كثيرة لا هدف منها غير محاولة الخروج من الأزمة. لكن ثمة حقيقتين حالياً: 1) النظام نفسه يعلم أن شرعيته ناقصة وأن الانتخابات ليست نهاية المطاف، 2) كل مَن استُمزج للعودة والتعاون يعرف في قرارة نفسه أنه مدعوٌ الى حلٍّ وهمي.