لماذا انفجرت أزمة دار الفتوى على نطاق واسع ومن يقف وراءها؟ من المستفيد في هذه المرحلة وفي هذه الظروف الدقيقة التي تمرّ بها البلاد من شقّ الصف السنّي، الذي طالما شكّل ضمانة لاستقرار لبنان؟ من اتخذ هذا القرار الانتحاري الذي ارتضى المفتي محمد رشيد قباني أن يكون واجهة أو غطاء له؟ أي جهة سياسية أو حزبية تحرّك قباني وفريقه وتدفع بهما الى خيارات مدمرة لهما ولطائفتهما؟. ما هي خلفيات إصرار المفتي ومجلسه الشرعي المصطنع على تعديل قوانين هي أكبر منه بكثير وتتخطى صلاحياته، لتصل الى حدّ التعدّي على صلاحيات رئيس مجلس الوزراء، وتبدل في هيكلية الهيئة الناخبة لمنصب المفتي، وما هي دواعي توسيعها؟.
هذه الأسئلة كلّها تتزاحم دفعة واحدة في عقول أبناء الطائفة السنّية، وتثير ريبة المراجع السياسية والدينية للطائفة، لا بل هي تراكم اليوم قلق الشارع السنّي بشكل عام. فالتطورات المتسارعة والأزمات التي يختلقها مفتي الجمهورية عشية انتهاء ولايته وإحالته على التقاعد لبلوغه السنّ القانونية، تخفي في طياتها ما هو أدهى، وترسم معالم ما يخطط له البعض في الداخل وخلف الحدود، وهي إن دلت على شيء فإنما تدلّ على إمعان جهات حزبية وسياسية لها ارتباطاتها المشبوهة، في شقّ الصفّ السنّي ومحاولة تعميق الشرخ الذي نشأ منذ أكثر من سنة على خلفية إصرار قباني على إجراء انتخابات للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى فاقدة للشرعية القانونية والشعبية، وتشكّل حالة تمرّد على القرارات والأحكام القضائية، وخروجاً مدوياً وفاضحاً على قرارات المرجعية السياسية المتمثلة برؤساء الحكومات والمجلس الشرعي، وتضرب عرض الحائط بكل الأسس التي تقوم عليها آلية الانتخاب وتعيين المفتين ورؤساء الوحدات في دار الفتوى وصندوق الزكاة وغيرها. وهي مؤشر على سعي حثيث من أجل شقّ دار الفتوى كمرجعية وطنية وإسلامية لها دورها وتاريخها ورمزيتها وأيضاً قدسيتها لدى المسلمين بشكل عام والسنّة بشكل خاص.
هذا التدهور المفاجئ لم يأتِ من فراغ، إنما له دلالاته وخلفياته والأجواء التي مهدت لهكذا انقلاب، سيما وأنه جاء بالتزامن مع المساعي الصادقة التي كانت تُبذل من أجل رأب الصدع، وعشية اتفاق شبه منجز يقضي بأن يستمر قباني في ولايته التي تنتهي في 14 أيلول المقبل، وأن تدعى الهيئات الناخبة الى انتخاب مفتٍ يشكل حالة جامعة ويُعيد لدار الفتوى والمؤسسات التابعة لها وحدتها وهيبتها ويكون الحاضنة التي تعيد جمع الكل تحت عباءتها.
المفارقة أن إنقلاب قباني، جاء بعد ساعات قليلة على فتحه أبواب الدار أمام مجموعة من متسلّقي العمل السياسي، من أيتام المخابرات السورية، ومن المؤتمنين على دورهم كمخبرين أوفياء لاستخبارات بشار الأسد وشبيحته، التي خرّجت من صفوفها الكثير من هؤلاء على شاكلة ميشال سماحة، وأوكلت إليهم مهمة تفجير وقتل عدد من رجال الدين والمواطنين الأبرياء على موائد الإفطارات الرمضانية في عكار، الذين يُفترض بسماحة المفتي أن يكون مرجعيتهم وحاميهم من إجرام هذه الفئة التي فتحت لها أبواب دار الإفتاء على مصراعيها ليدخلوها دخول الفاتحين. كما خرّجت من صفوفها أيضاً أبطال اجتياح السابع من أيار الذين روّعوا بيروت ونكّلوا بأهلها وبأبنائها وانتهكوا حرمات المنازل ونالوا من كرامة دار الفتوى وحاصروا سماحته في دارته قبل أن يتدخل الرئيس سعد الحريري لحمايته متخطياً كل الأخطار التي كانت تتهدد حياته في تلك المرحلة.
هكذا قرارات أقلّ ما يُقال فيها إنها تشكّل تحدياً صارخاً ليس للمرجعيات السياسية والدينية التي لها مكانتها وموقعها وتأثيرها فحسب، إنما هي انقلاب واضح على إرادة الشارع السنّي الذي بدأ يضجّ فيها، وتنذر بخطر نقل الصراع الى المساجد إذا التزم بعض أئمة المساجد بالتعليمات التي زودهم بها قباني في الاجتماع الطارئ الذي دعاهم اليه في بهو دار الفتوى أول من أمس، وتتخوف بعض الأوساط من أن تشهد بيوت الله التي هي أماكن للعبادة حالة هرج ومرج، إذا التزم بعض الخطباء بالتعليمات التي عممها عليهم قباني ومحاولة تبرير خطواته الإنقلابية، لأنها ستواجه بردود أفعال رافضة من المصلين إن لم يكن خلال الخطبة احتراماً لآداب الصلاة، فبعدها، وذلك على غرار ما واجهه قباني في جامع الخاشقجي نهاية العام الماضي عند تشييع الشاب الشهيد محمد الشعار الذي قضى في التفجير الإرهابي الذي أودى بحياة الوزير الشهيد محمد شطح. وهذه التحركات تأتي بالتزامن مع معلومات متواترة تتحدث عن محاولات يجهد فريق بشار الأسد في لبنان في سبيل تحقيقها، وتقضي بالمجيء بمفتٍ يكمل من حيث انتهى قباني، ويمعن في حرف دار الفتوى عن مسيرتها ورسالتها الوطنية والإسلامية الجامعة، ويمكّن هذا الفريق من وضع اليد بالكامل على الدار والمؤسسات التابعة له وعلى مؤسسات الأوقاف الإسلامية في بيروت والمناطق والتي طالما كانت تحت مجهر هؤلاء، وباءت محاولاتهم بالفشل منذ عهد المفتي الشهيد حسن خالد، الى أن بدأت تباشير هذا المشروع تتظهّر الى العلن مع الخطة الإنقلابية التي يواجهها أبناء الطائفة السنية منذ حوالى السنتين.
هذه التطورات الخطيرة باتت الآن موضع متابعة وعناية من المعنيين سواء من قبل رئيس الحكومة تمام سلام ورؤساء الحكومات السابقين، أو في اجتماعات المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى برئاسة الوزير السابق عمر مسقاوي، أو من قبل العلماء والمشايخ الذي يشددون على وحدة السنّة التي هي أساسٌ لوحدة لبنان واللبنانيين.
فقد حدد الأمين العام للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى الشيخ خلدون عريمط مكمن الخلل، وأكد في حديث الى «المستقبل»، أن «الشيخ محمد رشيد قباني مكلف من قوى محلية وإقليمية، وجعل من نفسه منصة للهجوم على الفريق الإسلامي وأكثرية المسلمين، خصوصاً على رئاسة الحكومة والرئيسين سعد الحريري وفؤاد السنيورة لإيجاد شرخ وفتنة سنية ـ سنية»، مبدياً أسفه لأن قباني «بات واجهة لهذا المخطط، ولأن موقع مفتي الجمهورية مخطوف من قبل قباني وهو واجهة لهذا الاختطاف أيضاً». وسأل: «ما دام قباني سيمشي في أيلول ويذهب الى بيته و»الله معو» لماذا يفتعل هذه الأزمة ويجمع في دار الفتوى تنظيمات وأحزاباً معروفة الانتماء والمنحى ليسلّمها دار الفتوى؟».
ويكشف الشيخ عريمط عن «معلومات عن الخلفية المحلية والإقليمية التي تحرك قباني، لقد أرادوا منه أن يكون «مخلب قطّ» للهيمنة على المسلمين في لبنان، وهو بات جزءاً من الهيمنة عليهم في المنطقة، فبدل أن يكون مؤتمناً على أهل السنة والجماعة، بات عامل ضرب لهم في لبنان كجزء من محاولة ضربهم في المنطقة، هذا الرجل لم يعد مفتياً لأنه فقد مواصفات المفتي، بعدما ضرب وحدة المسلمين وبات يشكل خطراً على وحدة الصف الإسلامي، وللأسف تحول دوره اليوم الى تدميري من خلال هجومه على رؤساء الحكومات والوزراء والنواب وكل من يعارض خطه»، مذكراً بأن «دور المفتي أن يكون متحلياً بالصبر والسماحة، وأن يسخر نفسه وجهده لخدمة الناس لا أن يكون معولاً لهدم بنيان المسلمين في لبنان».
ورداً على سؤال عن الغاية من محاولة المفتي توسيع دائرة الهيئة الناخبة، أوضح أن «الهيئة الناخبة المصغرة التي اعتمدت في العام 1996 على أيام الرئيس الشهيد رفيق الحريري رحمه الله، هي التي انتخبت المفتي قباني، فإذا كانت غير صالحة، معنى ذلك أنه هو غير صالح». وأشار الى أن «الهيئة الناخبة الحالية مدروسة بعناية ودقة، إذ أن نصفها من العلماء وقضاة الشرع والقضاة الحاليين والسابقين، والنصف الآخر من السياسيين أي رؤساء الحكومات والوزراء الذين يمثلون السلطة ومن النواب الذين يمثلون الشعب ورجال الأعمال، كما أن ثلث أعضاء المجلس الشرعي من المشايخ، فأين انتقاص التمثيل، وما الداعي الى توسيع الهيئة الناخبة؟».
وعن أسباب تسعير الأزمة بعدما كانت المفاوضات تأخذ منعطفاً إيجابياً، أوضح عريمط، أنه كان لدى المفتي قباني ثلاثة طلبات، الأول طي الملف المالي في دار الفتوى، والثاني سحب الدعاوى القضائية، والثالث، إما التمديد له أو تأمين الخروج اللائق له من دار الفتوى. فكان الجواب أن الملف المالي بمتناول القضاء، ولا نستطيع أن نقول للقضاء برّىء أو لا تبرّىء، وأبلغ أيضاً أن التمديد غير وارد، لكن لا مانع من الخروج اللائق شرط أن يعود عن كل القرارات الخاطئة التي اتخذها، مثل تعيين مفتين في مناطق فيها مفتٍ مثل صيدا والبقاع وبعلبك، وتعيين أمين عام للمجلس الشرعي وغيرها، وهذا ما لم يقبل به». وختم: «باعتقادي إن قباني لا يستطيع أن يتراجع لأنه بات أسير اللعبة المحلية والإقليمية».
وتعليقاً على هذه المستجدات المصيرية، أبدى عضو المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى المحامي محمد المراد اعتقاده، أن «شيئاً لم يتغيّر من جهة واضعي هذا المخطط لمفتي الجمهورية المكلّف بتنفيذه بالنسبة للسنّة في لبنان ولدار الفتوى تحديداً». وقال لـ»المستقبل»أمس: «منذ أن أعلن المفتي قباني موقفه الواضح بأنه منحاز الى السفير السوري (علي عبد الكريم علي) والى السفير الإيراني (السابق غضنفر ركن أبادي) والقوى التي تعاقد معها وتعهّد بتنفيذ مطالبها على مستوى دار الفتوى، وهو يمعن في ضرب الدار ووحدة المسلمين السنّة، وقد تجلّى ذلك في محطات سابقة من خلال التصرفات غير المسؤولة التي ضرب من خلالها كل القيم وانقلب على مفهوم الدولة والمؤسسات والأحكام القضائية، وعندما لم يكترث جهاراً نهاراً لأي قرار يصدر عن السلطة القضائية بالنسبة الى الانتخابات المزعومة». ولا يرى في مخططات قباني «إلا إنتاجاً لمجموعة من المرتهنين، هدفها ضرب وحدة المسلمين وضرب وحدة الطائفة السنية وكل العمل المؤسسي في دار الفتوى». وباعتقاده أن «هذا المخطط نفّذ لفترة واستراح المحارب قبل أن يعود لخوض معركة مفتي الجمهورية وهي المعركة الأساس والفيصل بالنسبة إليه».
ويضيف المراد: «إن ما حققه مجلسنا كان يحتكم فيه الى القرارات والأحكام القضائية، الا أن مفتي الجمهورية لا يزال متعاقداً مع الجهة التي تديره، وما حصل في السابع من الشهر الحالي، معركة هدفها القبض على رأس المؤسسة وعلى موقع الإفتاء في الجمهورية اللبنانية، وما قرره المفتي يوم السبت الماضي لا يمتّ الى القيم ولا الى تاريخ دار الفتوى الحضاري والوطني، وهو تتمة لما يفعله منذ سنتين حتى الآن». «ليس لعاقل أن يفعل ما فعله قباني ومجموعته المصطنعة«، يقول المراد، «لا من الناحية القانونية ولا الشرعية ولا الأخلاقية». ويسأل «كيف يتجرأ على إلغاء مواد تتعلق بصلاحية رئيس الحكومة بالدعوة الى انتخاب المفتي، والمادة المتعلّقة بولاية المفتي، وأن يلغي المادة التي تحدد الهيئة الناخبة للمفتي؟. هذا مخطط مدبّر يسعى من يقف خلفه الى إرباك الساحة السنية، ويدخل بذور الفتنة بين المشايخ والعلماء، وهذا يتجلّى من خلال التحريض الذي يقول فيه «أنا أعيد إليكم الحقوق»، لكن الهدف منه الشرخ والفتنة بين أبناء الطائفة الواحدة».
إزدواجية المفتي قباني مثيرة للاستغراب، وهو ما يشير اليه المحامي المراد حينما يسأل: «كيف لهذا المفتي أن يرفض قانوناً ومواد مكنته من التربع على رأس موقع الإفتاء لمدة 18 عاماً، وهو بفضل هذا القانون بقي ينعم بالمنصب طيلة هذه السنوات، ثم يأتي اليوم ليتباكى على حقوق المشايخ والعلماء، ويحاول عبرها الإنقلاب على القرار الذي انتخب على أساسه وجاء به مفتياً؟». ويشير الى أنه «إذا كان إلغاء المادة التي قلصت عدد أفراد الهيئة الناخبة هو الصحيح، فذلك يعني أن انتخاب المفتي قباني كان باطلاً، وبالتالي ما بُني على الباطل هو باطل». وتوجه المراد الى قباني بالقول: «إذا كنت تصرّ على الارتكاز الى نظريتك الفاسدة، فإن ولايتك التي دامت 18 عاماً مزورة، وبالتالي لا قيمة لكل قراراتك ووجودك على رأس دار الفتوى».