IMLebanon

قفازات قضائية.. لمذكرات مخابراتية

 

 

مذكرتا التبليغ الصادرتان عن النظام السوري بحق النائب وليد جنبلاط والزميل فارس خشان، تستحقان القراءة والتأمل، ليس لقوتهما القانونية والمعنوية ومفاعيلهما القضائية، فهما لا تساويان قيمة الحبر الذي كتبتا به، إنما لصدورهما عن نظام مجرم فَقَدَ شرعيته وأسباب وجوده، ولا يزال يتوهم أنه دولة تمارس سلطتها وكأن شيئاً لم يكن.

قبل البحث في «اللاقيمة» القانونية لهذه المراسلة وعدم جدواها في لبنان من الوجهتين القضائية والسيادية، كان لافتاً أن نظام الأسد وعصابته القضائية ارتديا قفازات قضائية لإرسال هاتين المذكرتين الى لبنان، في اليوم نفسه الذي اجتمع فيه العالم كلّه في مجلس الأمن الدولي، من أجل إحالة جرائم بشار الأسد على المحكمة الجنائية الدولية، ليس بخلفيات سياسية انتقامية، إنما بالاستناد الى تقارير منظمات حقوق الإنسان، وهيئات تابعة للأمم المتحدة، وثّقت جرائم هذا النظام بالصوت والصورة والأدلة، وقدمت أدلة قاطعة على ارتكابه جرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية ضدّ شعبه، وممارسة الإرهاب بكل أشكاله، واستسهل ارتكاب مجازر ربما لم يشهدها التاريخ من قبل، وكاد يخطو أمس خطوته الأولى على طريق نظيره سلوبودان ميلوسوفيتش، لولا الإصرار الروسي والصيني على تغطية هذه الجرائم والمجازر، بفعل استعمالهما حق النقض الفيتو، مشرعين للأسد الطريق نحو الاستمرار في همجيته التي لا سابق لها.

قبل أن تكلّف استخبارات الأسد نفسها عناء إرسال مثل هذه المذكرات مذيلة بتوقيع وخاتم «محكمة جزاء اللاذقية»، لاستدعاء زعيم سياسي وإعلامي لمحاكمتهما على تصريح أو مقال صحافي، كان حريّ بها أن تسأل نفسها عن مآل مذكرات التبليغ التي أرسلها القضاء اللبناني، واستدعاء مدير مكتب الأمن القومي اللواء علي مملوك ومساعده، للتحقيق معهما في «الهدايا« المفخخة التي أرسلها بأمر من الأسد الى لبنان بواسطة مستشار الأخير ميشال سماحة، لقتل سياسيين ورجال دين ومئات المواطنين الأبرياء على موائد الإفطارات الرمضانية؟ ولم تتجرأ على الردّ على المذكرة اللبنانية لاستدعاء المسؤول في جهاز أمن اللاذقية النقيب محمد علي علي ومساعديه، لاستجوابهم في إرسال سيارتين مفخختين وتفجيرهما أمام مسجدَي «السلام« و«التقوى« في طرابلس، مع ما خلّفته هذه المجزرة المزدوجة من ضحايا ومصابين وتدمير لم تُمحَ آثارها حتى الآن، وإصراره على تهريب المفجّرين وحمايتهم في ما تبقى من مناطق سورية ما زالت خاضعة لسلطة نظام آخذ في التداعي يوماً بعد يوم.

لا شكّ في أن دوافع إخفاء هؤلاء المجرمين تبقى مفهومة، فالقبض عليهم أو تسليمهم يعني في ما يعنيه أن الأسد يسلّم رأسه للعدالة، وأن الحقائق التي تجلّت في اعترافات عدد من الموقوفين وعلى رأسهم مستشار الأسد ميشال سماحة، التي يصرّ الأسد وعصاباته على نفيها تارة، والتقليل من أهميتها تارة أخرى، ستكون حقيقة مدوية مع توقيف هؤلاء.

هذا من الجانب السياسي، أما من الجانب القانوني، فيبدو واضحاً أن هاتين المذكرتين لن تكون لهما أي مفاعيل حقيقية وفق ما أعلن بالأمس وزير العدل اللواء أشرف ريفي، وإعلانه الاتجاه الى ردهما. وهو ما أيده مصدر قضائي متابع، إذ رأى أن مثل هذه المذكرات تستوجب الردّ في الشكل قبل بحثها في أساسها.

ويؤكد المصدر القضائي لـ»المستقبل»، أن «دواعي ردّ هذه التبليغات تتلخص في ثلاث نقاط جوهرية هي:

أولاً: إن هذه المذكرة لم تبيّن ماهية الجرم المدعى به على جنبلاط وخشان لدراسته، ومطابقته على المواد الجرمية المدعى بها، بغضّ النظر عن صحتها أو عدمها.

ثانياً: إن التبليغ تجاهل الصلاحية المكانية والسيادية للقضاء اللبناني. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لو ثبتت صحة ارتكاب هذا الجرم، فإن صلاحية النظر فيه تكون من اختصاص القضاء الوطني، باعتبار أن هذا الجرم المزعوم ارتكب «فرضاً» في لبنان ويعود للسلطة القضائية اللبنانية حق النظر فيه.

ثالثاً: تتجاهل المذكرة عن قصد أن النائب وليد جنبلاط يتمتع بالحصانة النيابية، وأن الأصول المتبعة للاستماع الى النائب أو التحقيق معه في لبنان خاضعة لشروط معقدة جداً، فكيف بالأحرى أن يكون مطلوباً لدولة أجنبية، مع ما لهذا الطلب من انتقاص من سيادة الدولة واستقلاليتها واستقلالية سلطاتها الدستورية«.

في الخلاصة إذا كان استدعاء النظام السوري وفق المفهوم القانوني والسياسي هو لزوم ما لا يلزم، فإن التمادي في السير في هذه الطريق المسدودة، والتي جرّبت في محطات سابقة، ليس لها سوى تفسير واحد، هو أن نظام الأسد الآيل الى الزوال، يحاول أن يظهر أنه لا يزال على قيد الحياة ويمارس صلاحياته، علماً أن هذا النظام معروف عبر تاريخه أنه لا يجيد إلا ثقافة القتل والإجرام، في مواجهة الموقف والكلمة والحجة، وهو يعرف تماماً، أنه لن يفلت من جرائمه، وسيعاقب عليها إما على يد شعبه، أو أمام العدالة الدولية التي ستنال منه عاجلاً أو آجلاً.