شكّلت قمّةُ بكركي مساحة إطمئنان لدى القلقين على لبنان «الذي نعرفه» بميثاقه، بصيغته، بتنوّعه. وأكّدت فعل إرادة بوجود جبهة داخليّة لا يُستهان بها في مواجهة المشاريع الوافدة، والتي تحمل في أرحامها بذورَ التفتيت.
إنعقدت القمة وسط غابة من القلق على المستقبل والمصير، إستحوذت توصياتها على إهتمامٍ في مجالس سفراء المجموعة الدوليّة لدعم لبنان. حجّتهم أنّ التوغّل في المتاهات المذهبيّة قد فاض عن سعة ووساعة الوعاء الوطني. وحجّتهم أيضاً أنّ البعض يتلطّى وراء متراس الطائفة ليصارع ويقارع، بدلاً من أن يحاور ويساير.
مسألة الأقليات، وفق ما هو متداوَل في بعض المجالس الدبلوماسيّة، لم تعد حديثاً عن جماعات متنافرة متناحرة، بل باتت عنواناً لتجربة ناجحة في مختبر الإنصهار الحضاري. كان هناك عراق موّحد للعراقييّن جميعاً، قبل أن يتحوّل سنّة، وشيعة، وكرداً، ومسيحييّن، وأيزيديين، ومللاً، ونحلاً. ووقفت قمّة بكركي على شفير هذا المنحى الخطير لتقول: نريد لبنان كما هو، أو بالأحرى نريده وطنَ الأقليات، لا وطنَ التشتات.
إنعقد مجلس الأمن قبل أيام تحت شعار حماية الأقليات، لكنّه لم يتبنّ توصية، لم يتخذ قراراً، لم يُصدر بياناً رئاسيّاً. ساير فرنسا من حيث الشكل، خذلها من حيث المضمون.
وعلى الرغم من ذلك تبدو النظرة الدبلوماسية مغايرة، ما جرى أكد على بداية تحوّل. في قواميس المجتمعات العلمانية، وتحديداً الأوروبيّة لم يعد من مكان لمصطلح الأقليات. تسمية وردت في فرمان السلطان، أيامَ زمان، وعندما كان لبنان في حضرة المتصرّف، لكنّ العودة اليها فرضها واقعٌ ثقافي مُلِحّ. إغتاظ الغرب، وهو يرى أبجديّة حمورابي تحطّمها «الداعشيّة». وحنّ الى الكنوز التي تفرّد بها المتحف الأشوري، وقد ذهل من برابرة العصر وهم يقتحمونه، ولم يكتسبوا من الحضارة الإنسانيّة، سوى السكين، والساطور، والمهدّة.
إجتمع للإستئناس بالآراء بين أعضائه، منطلقاً من قناعتين، الأولى: لم تعد المصالح وحدها في الحسبان، بل كيفيّة حمايتها في مجتمعات الثأر، والعنف، والمقابر الجماعيّة.
لم يعد الإختلال على مستوى الأمن، بل على مستوى الفكر، والثقافة، والمعتقد، هناك عصبيّة متوحّشة، وهمجيّة منفلتة، لا تقيم وزناً لدساتير، أو قوانين، وأنظمة، وحرمات، ومقدّسات. من نافل القول إنّ المجتمعات الغربيّة تأمن لهذا الإنفلات، والإنفلاش اللاّمحدودين ضدّ الآخر أيّا كان لونه، وثقافته. ربما ساهم الغرب الجشع في إحراق محاضر سايكس – بيكو.
ربما شجّع على إطلاق مخطط توجيهي يرمي الى إستحداث كيانات للمذهبيات والفئويات، لكن ربما بدأ يقتنع بأنّ بعثرة الأقليات، وتطفيشها، وتشتيتها في رياح الأرض الأربع، قد فاقم من منسوب الرعب المتراكم الذي تعيشه مجتمعاته، رعب بدأ يترجم في صناديق الإقتراع حيث تحصد عمليات الفرز علامات متفوّقة لمصلحة عنصريّة جديدة مستحدَثة.
لقد برهنت الإنتخابات الفرعيّة الفرنسيّة الأخيرة عن عمق هذا التحوّل، وخطورته. زغردت زعيمة اليمين الفرنسي المتطرّف ماري لوبان وهي تعلن عن بالغ تأثرها وسرورها، كونها حصدت أكثر مما كانت تتوقع. إنه جرس الإنذار على مستوى كلّ أوروبا. لا يمكن أن تقبل المجتمعات الديموقراطيّة الغربيّة تخليّاً عن الإنفتاح، وجنوحا نحو عنصريّة جديدة يمكن أن ترفع أيّ شعار، وتتستّر بأيّ لباس، وتعتمر أيّ قبّعة.
الثانية: أنّ مخطط «الترانسفير» لم يقدّم حلاّ، ولم ينجح في أن يعوّض عن نقص. منذ سنوات تزعّمت كندا المجموعة الدوليّة في لجنة اللاجئين المنبثقة عن المفاوضات المتعدّدة الأطراف، وكان الغرض معالجة التعنّت الإسرائيلي في رفض حق العودة، وضرورة إيجاد حلّ للاجئين الفلسطينييّن في لبنان، في سوريا، في الأردن، وفي سائر الدول الأخرى. إنتهت اللجنة من أعمالها، ختمت محاضرها بالشمع الأحمر، وإستودعتها أدراج النسيان، فيما بقي المخيم، والقضيّة، والتداعيات من دون حلول.
لم يختلف الوضع كثيراً، تواجه دول الإستيعاب مشكلتين: عقدة الفوارق الثقافيّة والإجتماعيّة التي حالت دون حصول إندماج فعلي بين المجتمعات الوافدة، والأخرى المقيمة.
وعقدة الإنفصال عن الجذور بعد أن أكّدت التجارب والممارسات بأنه لا يمكن معالجة قضايا الديموغرافيا بتشويه الحقائق، وطمس التاريخ والجغرافيا، ولا يمكن إقتلاع الفلسطينيين من أرضهم وتاريخهم والتعاطف مع اليهود الإسرائيليين لأنهم دعاة حقوق في الأرض والتاريخ. لم يتّخذ مجلس الأمن قراراً لحماية الأقليات، لكنّه على الطريق.
لم تنتخب قمّة بكركي رئيساً، لكنّها على الطريق، قد لا يكون الإستحقاق من صلاحياتها، ولكنها ضربت على الوتر الحسّاس، وقالت كلمة شجاعة في «لبنان الذي نعرفه»، والذي تريده.