يخطئ زعماء مسيحيون، وتحديداً موارنة، إذا دخلوا في منافسة مع الشريك المسلم على العدد، أو في منافسة في ما بينهم على صلاحيات الرئاسة الأولى أو على صفة الرئيس أن يكون قوياً أو ضعيفاً لأن قوّة المسيحيين لم تكن يوماً في عددهم بل في دورهم. فكانوا روّاد علم وثقافة ورجال مال وأعمال واقتصاد ولن يكون لهم دور مهما بلغ عددهم إذا أصبحوا كمية مهملة لا نوعية فاعلة ومؤثّرة. والأسئلة التي تطرح هي: هل يريد المسيحيون مزيداً من عدد النواب تحقيقاً للمناصفة الحقيقية ومزيداً من الوظائف ومن الصلاحيات لرئيس الجمهورية، أم يريدون من يؤمن معهم بلبنان سيداً حراً مستقلاً وكياناً ثابتاً واستقراراً دائماً يأتي بالعيش الكريم والازدهار، ويلتزم الحياد المطلق عن شرق وغرب؟ هل يريدون تمثيلاً صحيحاً في مجلس النواب لا يتحقق إلا اذا انتخب كل مذهب نوابه، أم يريدون أن يكون تمثيل كل النواب سياسياً ووطنياً يشارك في انتخابه خليط من المذاهب كي يسود الاعتدال والوعي في تصريحاتهم وخطبهم ويصبح وصف كل نائب بأنه يمثل الأمة جمعاء؟ هل يريدون تحقيق الشعار الذي رفعه البطريرك الكاردينال الراعي وهو “الشركة والمحبة”، أم يريدون شركة مشاكسة ورياء وتكاذباً فلا يبقى لبنان عندئذ واحداً موحداً بل مشرذماً ومقسماً وأرضاً تكره البشر؟ هل يريدون لبنان بلون واحد، أم يريدونه متعدد اللون ووطن رسالة يؤمن بها الجميع؟ هل يريدون زعماء يستخدمون عقلهم أم سواعدهم وأن يحكموا بحكمة وليس بتهور، وأن يستخدموا ذكاءهم لا غباوتهم، وأن يتحملوا حتى الظلم ولا يرتكبونه؟… هل يريدون مناصفة تعطيهم نصف لبنان، أم يريدون لبنانيين تكون المواطنية في نفوسهم وقلوبهم وعقولهم ويؤمنون بوطنهم إيماناً راسخاً ولا ولاء لهم إلاّ له، يدافعون عن كيانه ووجوده وعن سيادته واستقلاله وقراره الحر ويرفضون جعل أرضه ساحة مفتوحة لصراعات المحاور؟ هل يريدون أن يظل لبنان يعيش وضعاً شاذاً بلا دستور ولا نظام ولا عدالة ولا دولة، وأن يتحول كل مذهب فيه حزباً ودويلة يفتح أبوابه للأزمات الحادة والفوضى العارمة، أم يريدونه واحداً موحداً أرضاً وشعباً ومؤسسات ونظاماً تعددياً توافقياً يشكل شبكة أمان لجميع أبنائه ودرعاً واقية من شرّ كل خارج، أم يريدون أن تقيم كل طائفة وطناً لها فلا يعود عندئذ وطن بل أزمات طوائف مستمرة؟ هل يريدون تحالف أقليات أم تحالفاً بين معتدلين كخيار حياة لهم لمواجهة المتطرفين؟
إن لبنان كأي بلد آخر استقلاله وسيادته مرتبطان بوحدته الداخلية، وتنوعه رهن بالتواصل لأن التنوع من دون تواصل لا يكون مصدر غنى بل مدخلاً لصراع أهلي.
يتساءل رجل الحوار والاعتدال سمير فرنجيه في حديث له قبل سنة: “ألم ندرك بعد استحالة قيام الدولة السيدة الحرة مع وجود جيشين على أرضها أحدهما يخضع لإمرتها والآخر لإمرة حزب أو دولة اقليمية؟ فما الذي حصل لكي نشهد هذا السقوط المريع في صفوف المسيحيين فتحولنا من جماعة لعبت الدور الأساسي في قيام الكيان اللبناني وبناء الدولة إلى جماعة تحشر نفسها داخل فكرة أقلوية ويدفعها هاجس الخوف إلى البحث عن حماية لها من خارج الدولة؟”.
الواقع أن الوزن المسيحي لا يكون بالعدد ولا حتى بالمناصفة التي يحققها هذا القانون الانتخابي أو ذاك، ولا بتعديل الدستور لاستعادة صلاحيات فقدها رئيس الجمهورية في اتفاق الطائف، علماً أنه لم يكن لكثير من الرؤساء القدرة على استخدامها حرصاً على الوحدة الوطنية والعيش المشترك والسلم الاهلي، وقد دفع الرؤساء الذين استخدموها من دون وعي الثمن ليس ضرباً لهذه الوحدة فقط إنما تحولهم من رؤساء أقوياء إلى رؤساء ضعفاء لأنهم لم يعرفوا كيف تدار التوازنات الداخلية الدقيقة تجنباً لاشتعال أزمات يصعب إخمادها من دون الاستعانة بخارج، وصار شرط إيصال رئيس قوي سبباً لإحداث شغور رئاسي يفتح الباب على فراغ شامل في السلطات وشلل في المؤسسات تدخل منه الفوضى العارمة التي تهدم كيان لبنان وصيغته الفريدة من دون أن تبني لبنان جديداً أفضل. ولأن الرئيس القوي لا يصل بانتخاب النواب بل بواسطة الشعب مباشرة فان الشعب بفئة منه قد لا يكون أكثر وعياً من النواب عندما يتغلب فيه الشعور الطائفي على الشعور الوطني والحزبيات الضيقة على المواطنة، فتفتح المطالبة بانتخاب رئيس من الشعب الباب لخلاف على تكريس توزيع السلطات الثلاث على الموارنة والسنّة والشيعة دستورياً ولا تبقى مطبقة بالعرف كما الآن منذ 1943، فيخسر الموارنة منصب الرئاسة الأولى إذا ما طرحت المداورة، ليس في هذا المنصب فحسب بل في المناصب الثلاثة.
لذلك على المسيحيين أن يكونوا معنيين بالمواقف من لبنان أكثر من المواقع بعدما فقدوا قوّة العدد ووحدة الصف وفقدوا أيضاً رجال ثقة ورجال دولة وصار معظمهم رجال تخوين.