لا يفاجئك الخواء الفكري والعقلي والإفلاس الأدبي والأخلاقي اللذان يضج بهما البيان المدبج باسم ممثلية العائلة السعودية في بيروت، رداً على مقال يوم السبت الماضي «الكارثة السعودية… السعودية الكارثة». نموذج أصيل آخر عن لاثقافة المنطق وعداء الحوار ولاقابلية الفهم البشري وانعدام التواصل الإنساني. وتكلّس تحنيطي آخر لجاهلية التيوقراطية الشمولية والعائلية المعاكسة لمنطق التاريخ والبشرية.
تدبيجة فارغة لا يمكن مجاراة انحطاطها في الكلمات والتعابير. غير أن معركة القيم تظل واجبة الوجود والخوض. وهي وحدها تفرض الرد على الرد، لكن بالوقائع الجامدة، والحقائق المثبتة. ليست المشكلة مع نظام العائلة المذكورة في أن تكون قد عانت من إرهاب أو لا. ولا قضيتنا معها أنها «أكرمت» لبنان أو بعض اللبنانيين أو لم تكرمهم. مشكلتنا معها على مستوى الشخص الإنساني وقدسية حياته وأصالة حقوقه وثبات قيم الحياة الإنسانية.
مثلاً، مشكلتنا مع ذلك النظام أننا نلتزم مضمون الإعلان العالمي لحقوق الإنسان دستور حياة وسلوك وعيش وحكم. وهو، بالمناسبة نقول ذلك لكل هذه الطبقة السياسية المتهافتة على دنانير النفط، ما يؤكد الدستور اللبناني في مقدمته الميثاقية على التزام وطننا به، وعلى واجب الدولة تجسيده في شتى المجالات. في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يا سعادة ممثل عائلة سعود عندنا، 28 مادة حقوقية. هل تريد أن نفنّد تعدادها مادة مادة، لنرى ماذا تلتزم عائلة نظامك منها؟ من ولادة «جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق»، إلى رفض أي تمييز «بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، ودون أية تفرقة بين الرجال والنساء»، إلى رفض التعذيب والعقوبات الوحشية الحاطّة بالكرامة الإنسانية، إلى حق الرجل والمرأة في «تأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين، وحقوقهما المتساوية عند الزواج وأثناء قيامه وعند انحلاله»، إلى «الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة»، مروراً بالحق «في حرية الرأي والتعبير»، وحق كل فرد، نعم كل فرد، لا أفراد عائلة نظامك وحدهم، «في الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون اختياراً حراً»، انتهاء بأن «إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة، ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجري على أساس الاقتراع السري وعلى قدم المساواة بين الجميع أو حسب أي إجراء مماثل يضمن حرية التصويت»، لا بإرادات فرمانية من همايونية من سيدك … 28 مادة هي دستور البشر في عالم اليوم. تعال يا سعادة الممثل، نستعرضها في مناظرة على الهواء مباشرة، مادة مادة، لنكتشف أين نظام عائلتك منها، وأين الإنسان والحق والعالم والعلن في دولة عائلتك؟ ولو مادة واحدة، لنكتشف أننا أخطأنا بحقكم. مادة حقوقية واحدة تطبقونها تكفينا.
هذا الواقع يا سعادة الممثل، لسنا نحن من يقوله ويؤكده. إنه مضمون كل القرارات الدولية حول نظام عائلتكم. فكما تستكتبون من يرد بالبيانات الفارغة، لو أنكم تستقرئون من يحاول إفهامكم مثلاً تقرير منظمة «هيومان رايتس واتش» الأخير، واستهلاله «كان 2013 عاماً سيئاً آخر لحقوق الإنسان في المملكة العربية السعودية»، أو التقارير السنوية لوزارة الخارجية الأميركية حول حقوق البشر في نظامكم. أو تقارير الحكومة البريطانية أو مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة. ترى هل تستكتبون أيضاً من يشتم أصحاب تلك التقارير والمسؤولين عن توثيقها وتحقيقها وتدقيقها واقعة واقعة وحقيقة حقيقة؟ أم أن فضيلة الردود المفلسة مقتصرة على بيروت؟ بيروت لأن فيها وزيراً تعيساً يتهافت باسمنا زوراً وكذباً لاسترضائكم. ولأن فيها مسؤولاً أمّياً يسارع إلى الدفاع عن ديمقراطيتكم العريقة. ولأن فيها رداءة الزمن وتصحر الرؤوس، حتى كادت تحاكي بعض ما عند سواها، ضميرها في قبر، وكرامتها في قفر، ومسؤولوها في عهر؟!
ندرك تماماً خطورة ما نقوله، ونحمّل المعنيين به المسؤولية الكاملة عن سلامتنا الشخصية وسلامة أهلنا إزاء قوله والجهر به. لكننا لا نقدر على الصمت أبداً. ليدرك من يجب أن يدرك أن ليس كل الناس موسومين بسعر. فثمة اصوات لا تخرج إلا من رؤوس أصحابها. لا من جيوب الآخرين ولا من أماكن أدنى من الجيوب. وليدرك من يجب أن يدرك أن التاريخ لا يمشي في مكان واحد في اتجاهين متناقضين. فزمن الطغاة قد انتهى، وزمن الصمت قد أفل، وزمن الحياة مواتاً على وقع البترو دولار لم يكن زمننا يوماً. فهناك قيم لا يفهم البعض حتى ترتيب حروفها، منها الكرامة، ومنها الحقيقة، ومنها الحرية. ومعركة هذه واجب وجودي علينا.
في بلادنا كان ثمة عظيم اسمه منصور الرحباني، كتب يوماً على لسان سقراط، أن أحد أقنان الملك جاء إلى الرجل الحر فوجده يأكل من نبات الأرض. فقال القن للحر: لو أنك ترضى بأن تسمع من الملك، لما كنت مضطراً لأكل نبات الأرض. فرد الحر على القن: لو أنك ترضى بأن تأكل نبات الأرض، لما كنت مضطراً لأن تسمع من الملك. ثمة أنظمة لم تسمع بالرحباني يوماً، ولا بسقراط. لكن آن الأوان لأن تكتشف الفارق بين الحر والقن.