IMLebanon

كلام في السياسة | ما بعد ما بعد الفوضى، من إسرائيل إلى السعودية…

حين وصف روبرت ساتلوف سياسة جورج دبليو بوش في منطقتنا باللااستقرار البنّاء، لم يكن يتصوّر في أكثر تخيّلاته جنوحاً، أن نبلغ زمننا هذا. كان ذلك سنة 2005. وللمصادفة أن الرجل نشر بحثه يوم 15 آذار من ذلك العام. بعد ساعات قليلة على آخر صيغة للثورات الملونة في بيروت.

ومع ذلك، يوم كتب منظر معهد واشنطن عن «تخبيص» إدارة تلك العاصمة في بلادنا، كنا لا نزال بألف خير نسبي. كانت للبنان دولة بعد. وكان لسوريا سلم بعد. وكان العراق في بداية حصاد الموت الديمقراطي للاحتلال المحرر. وكان السودان دولة واحدة، وكذلك اليمن. وكان الناس في ليبيا وتونس ومصر وغيرها من عرب أميركا، قد استدخلوا في وعيهم واللاوعي معادلة الحرية لقاء الأمن. وكانوا يتواعدون سراً، وقوفاً إلى حيطان البطالة والجوع والقهر، على يوم يجمعون فيه الاثنين معاً، ومعهما خبز وكرامة.

كانت المنطقة فيها أشكال دول وأنظمة وسيادات وشعوب ودساتير. ومع ذلك قال الرجل إن بلاده قادتنا إلى فوضى خلاقة. تراه ماذا يكتب اليوم بعد نحو عقد على توصيفه القاسي، فيما الشرق الأوسط قد تحوّل مثل خشبة استوديو كبيرة لتصوير فيلم ملحمي من نوع «حروب الوحوش»، لكن بالنيران الحية، وبالدم الحي وبالأجساد الحية وبكل حي لم يمت بعد وحتى يموت؟

في واشنطن نفسها، حيث يتباهى دارسو العقول بسيطرة ذهنية التفكير «من دون أي حالات نفسية»، بل بتجرد منطقي بارد صارم، يحكى أن فوضى أيامنا الراهنة ليست غير البداية. يقال مثلاً إن حدث «داعش» العراقي لن يكون عابراً. وإن «داعشستان» ولدت لتحيا لسنوات طويلة. وهي الآن في أول مسارها. تماماً مثل كل حالات الأصولية في هذا الشرق الساحر الساخر. بعدها ستنمو «دولة الخلافة»، وسترتدّ على حلفائها في انتفاضة الموصل. تماماً كما هو منطق كل انتفاضة وكل ثورة لديها أبناء وأنياب تأكل. وفيما تبدأ الحرب السنية ــــ السنية في غرب العراق، يقولون في واشنطن إن شيئاً مماثلاً يتوقع أن يكون على الطرف الآخر من خط التماس. صراع شيعي ــــ شيعي يخرج تدريجياً إلى العلن بين بغداد وطهران، بين النجف وقم. بين من يحمِّل هيمنة الأخ الأكبر الفقيه وتسلطه مسؤولية الثورة السنية في البلاد، ومن يرمي بالمسؤولية نفسها على الفشل البنيوي لدى شيعة بغداد في بناء دولة، لأسباب تراوح بين اتهامات الفساد، وإيديولوجيا لا شرعية الدولة في زمن الغيبة، وهشاشة القماشات الشخصية… يقولون في واشنطن إن وقتاً طويلاً نسبياً سيكون ضرورياً لتنامي بذور الانشقاقات تلك. وإن «بلاد ما بين الأعجميين» ستعطى كل الوقت اللازم لذلك. حتى تونِع تلك العشبة الضارة، وتزهر حساسيات وإشكالات واضطرابات مذهبية ــــ مذهبية، تكون بداية التحول نحو ما بعد زمن الفوضى.

أما من جهة الجنوب، فيحكى في واشنطن عن دور مضخّم لمصر المقبلة. حتى توريطها في ملفات مستغربة، إذ تنسج سيناريوهات خيالية عن «تنصير» السيسي، بمعنى جعله ناصر ثانياً. بينما الرجل يحتاج إلى الكثير ليكون بهالة من رفض الشعب هزيمته. فهو يحتاج إلى مجموعة شرعيات، يمكن اكتسابها من أدوار كاوبوي فرعونية في السودان، أو في ليبيا، أو حتى في اليمن. أصلاً، وفي طريقه إلى كل تلك الدول سابقاً، يعبئ «المستنصر» شرعية مائية نيلية من السودان، وشرعية مالية وبترودولارية من دور الشرطي في طرابلس الغرب، وشرعية إسلامية خليجية، قد تسبغها عليه الرياض في صنعاء. المهم أن كل الاحتمالات المتخيلة مطروحة على الورق وعلى العصف الفكري وفي حلقات التفكير والتنظير…

كل ذلك مطروح في فانتازيات الأفكار الواشنطنية، من أجل الهروب من مأزقين: مأزق اسرائيل ومأزق نظام العائلة السعودية. وهما المأزقان اللذان تنكّبتهما واشنطن طيلة عقود عبئاً عليها وعلى سياساتها الشرق أوسطية، فنكبت بهما بلدان المنطقة وشعوبها، حتى كادت تنكب نفسها بهما. نظامان قائمان على التمييز الديني المذهبي، وعلى رفض الآخر فرداً وجماعة وفكراً وفكرة وحياة وحتى موتاً. أصلاً ليست مصادفة أن يكون النظامان المذكوران، الوحيدين بين بلدان المنطقة، اللذين يرسيان حكمين لما يسمى دولتين، من دون دستور مكتوب، ومن دون أعراف دستورية. مأزقان يدركهما حكام النظامين في كل من الرياض وتل أبيب. في الأولى يحاولون التنصل بتصدير «داعشستان» إلى كل الجوار. وفي الثانية يتهربون من المسؤولية بالقتل الجماعي، وبتوقع ــــ والأرجح بالعمل على ــــ تلاشي دول المنطقة وإعادة رسم كل حدودها ودولها، كما أرهص مؤتمر هرتزليا الأخير قبل أسابيع.

هل من حلول بديلة؟ طبعاً يوجد. وتختصرها كلمتان: فلسطين والإنسان. الأولى استقلال ينهي كارثة اسرائيل، والثانية حقوق وحريات تعيد أرض الجزيرة وطناً لمواطنين. مفردتان تعرفهما واشنطن جيداً، لكنها احترفت العجز عن ترجمتهما إلى العبرية والعربية. ما يجعل بديل الترجمة بلبلة الدم وما بعد ما بعد أوهام الفوضى البناءة.