ثمة حملة تضليل كبرى تشن على لبنان والمسيحيين، وتستهدف بكركي بالذات. عنوانها: أي رئيس كان، وكيفما كان وفوراً الآن، وإلا فسيخسر المسيحيون آخر منصب دولتي لهم، بين الضفة الشرقية للمتوسط والفيلبين. أما الأوركسترا العازفة لتلك اللازمة الناعية، فكبيرة جداً، متعددة الأصوات.
فيها الوصوليون، وفيها الفاشلون، وفيها الفاسدون، وفيها الحاقدون بعمى. وفيها الخزمتشية والانكشارية وطبقات الموظفين وأصحاب جيوب الأموال بلا رؤوس، وأصحاب «يافطات» كل العهود، وفيها كل من لم يعتد نسمة حرية يوماً. وحدك يا صاحب الغبطة قادر على الصمود في وجههم. وحدها بكركي صخرة كما قيل.
فلبنان يا صاحب الغبطة، منكوب منذ ربع قرن. مذ فرضت عليه فرضاً بالحديد والنار تسوية مسخ باسم التقاطع الأميركي السعودي السوري، المسماة اتفاق الطائف. يومها أخطأ البعض في قراءة المرحلة. وأصاب بعض آخر. وكنت أنت يا صاحب الغبطة من الأخيرين. أمضيت سنوات التصحير المسيحي والوطني، ومن ثم أعوام التحضير للسينودس، تكرز وتعظ بأن اصمدوا. لن يكون لذلك الزمن السيئ أبد. وأن قلب الأوضاع آت. يبقى أن تكون جهوزية الصامدين المناضلين، على قياس وطن. وهكذا صار.
يومها يا صاحب الغبطة، كان الصمود جنوناً. وكان النضال انتحاراً. حتى صرخ ذات مرة سلفكم الكبير: إذا خُيرنا بين الحرية والتعايش، اخترنا الحرية. في لحظة غضب. كادت تكون يأساً أو حتى كفراً، بموازين العيش المشترك في طائف كونسورسيوم واشنطن ــ الرياض ــ دمشق. وكانت صرخة بكركي مفهومة يومها. ذلك أن ثلاثة انهيارات كانت قد تزامنت في فترة واحدة. بل في لحظة واحدة. فجعلت إحساس بكركي وناسها ووطنها، بأنها نهاية العالم. أو هو قعر القعر الذي لا قعر دونه. ولنستعد لمجرد الذكرى والاعتبار، تلك الانهيارات يا صاحب الغبطة، لندرك معاً في أي ظروف قاومنا قبل ربع قرن وفي أي ظروف نصمد اليوم:
أولاً، على المستوى اللبناني، كان انهيار ساحق لموازين القوى الداخلية. بعدما انهار المسيحيون جراء حروبهم الداخلية، التي لم تتركهم إلا وقد افترستهم وحوش الهزيمة والهجرة.
ثانياً، على المستوى الإقليمي، كان انهيار آخر لموازين القوى العربية. بعد مغامرة صدام حسين الكويتية، وبعد تكوّن جبهة كونية جاهزة لضربه. ما جعل سوريا حافظ الأسد يومها تسجل النقاط وتحصد وتراكم وتنتظر لحظة الاستثمار في لبنان بالذات.
ثالثاً، على المستوى الدولي، كان انهيار مواز، نتيجة بداية تفكك الاتحاد السوفياتي، وبروز نظام دولي جديد عنوانه أحادية القطبية، بزعامة واشنطن.
وشاءت لعنة التاريخ على لبنان، أن تكون تلك الانهيارات الثلاثة مترابطة متفاعلة. فواشنطن التي تسيدت وحيدة العالم يومها، تحالفت مع دمشق التي تسيدت وحيدة محيطنا في الوقت نفسه، والأخيرة كانت على تحالف مع الإسلام السياسي في بيروت، أقله في خطابه الأساسي ومطالبه المعلنة. فكان السقوط الكبير. وكان تدريجياً مرحلياً معيَّراً مثل السم البطيء. وكان البعض غافلاً عن ذلك. يضحك لمن سقط قبله، كأنه منتصر بعده. قبل أن يسقط بدوره وتكون ضربته أقسى من ضربة سابقه. هكذا يوم سقطت توازنات الوطن، بدأت ضربة عون نفياً. بعدها جاءت ضربة جعجع سجناً. إلى أن انتهت بضربة الحريري اغتيالاً. ولا يزال البعض يجهل مقولة أنني ذُبحت يوم ذبح أخي الثور الأبيض…
اليوم يا صاحب الغبطة، يهولون، ويتهددون، ويتوعدون وينذرون. فيما الأمور ليست كما يتوهمون. لا بل يمكن القول بواقعية جامدة، أن موازين القوى الثلاثة أفضل بكثير مما كانت عليه قبل ربع قرن. إن لم نقل أن بعضها قد انقلب رأساً على عقب. فلبنانياً، لم يعد المسيحيون في موضع المهزومين. برغم بعض التمادي في جنون قادتهم وأحقادهم وشخصانيتهم وأحزابهم المسجلة بأسمائهم، كما مقارها وعقاراتها وكل ما هو عندهم مُلكاً شخصياً بأموال عامة وإيرادات الناس… برغم ذلك كله، المسيحيون اليوم أفضل بألف مرة من جحيم مطلع التسعينات. يكفيهم أنهم باتوا على تفاهمات وتحالفات مع ما لم يعد موجوداً من مكونات الإسلام السياسي. حتى صاروا حلفاء لفريق سني أقوى هنا، أو لفريق شيعي أقوى هناك. أما على المستوى الإقليمي، فالمحور السعودي السوري الذي نكبنا باتفاق الطائف قبل ربع قرن، لم يبق منه ذرة قرن. سوريا في مأساتها المستجدة، والسعودية في مأساة أنها سعودية. شعب منكوب بمُلكية عائلة وهابية من الفكر الحنبلي… على فكرة، هل أوضح لكم ممثل تلك العائلة، يوم زاركم في 16 أيار الماضي، رأيه في فتوى شيخ عائلته حول ضرورة هدم كل الكنائس في الجزيرة العربية، واحتمال وجود أي علاقة فكرية، ولو إيحائية، بينها وبين «داعش»؟! المهم يا صاحب الغبطة أن الموازين الإقليمية أفضل بكثير الآن. فهي بقدر ما تحمل أزمات لحكام المحيط، تحمل فرصاً لشعوبهم ولنا.
يبقى المستوى الدولي، حيث لم تعد واشنطن روما الجديدة. بل ها هي تعددية قطبية تقوم تدريجياً من حولنا. فتجنبنا على الأقل انعدام الخيارات، كأن نصير بين الحياة والموت، أو بين الحرية والتعايش، كما صرخ سلفكم العظيم.
هذه هي حقيقة المشهد اليوم يا صاحب الغبطة. لبنان ليس مهزوماً، ولا أي جماعة فيه هي كذلك. لبنان اليوم أسير نظام وضع قبل ربع قرن، على قياس الوصايات والهيمنات. وفي لحظة توشك أن تكون مفصلية. فأنتم ونحن معكم أمام خيار من اثنين: إما الهرولة والتهافت لملء الشغور الرئاسي برئيس من صنف الفراغ نفسه، وإما أن نصمد ليكون للوطن ولنا حل. رئيس الفراغ، أو الرئيس الفارغ، سيكون النهاية. فخلال ستة أعوام مقبلة، إما أن يكون اتفاق سعودي إيراني ينهي الحضور المسيحي في لبنان، فينتهي لبنان. وإما أن يستمر الصراع الإقليمي الراهن، فينتهي لبنان أصلاً كوطن ودولة تحت وطأة النزوح السوري وحسب. وينتهي المسيحيون والمسلمون فيه. أما رئيس الخلاص، فهو من يقدر على تحويل تلك الأزمة إلى فرصة، من يقدر على محاورة دمشق لحل مأساة نازحيها، وعلى محاورة الرياض لتدرك ان بيروت ليست بغداد ولا المنامة طبعاً. ومن يقدر على جمع حسن نصرالله بسعد الحريري، أي جمع قوة المقاومة لكل لبنان، مع اعتدال سني بات ضرورياً لأجل الحريري نفسه أولاً، ولأجل السنة ثانياً، ولأجل لبنان ثالثاً. رئيس قادر على تصحيح ثغر النظام، مع التمسك بمقتضيات الميثاق. رئيس يكون ضمانة لسيادة الدولة، ومناصفة الجماعات، وحريات المواطنين.
هل يعني ذلك أن علينا الانتظار بعض الوقت؟ لم لا؟ أما قيل لنا «ايها المتقون للرب، انتظروا رحمته، ولا تحيدوا لئلا تسقطوا»؟!