لافتة جداً وجريئة أكثر، في الشكل والتوقيت والمضمون، الخطوة التي أعلنها إيلي الفرزلي حيال ميشال سليمان. ففيما كان قضاء باريس يحتجز الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، على ذمة التحقيق، كان نائب رئيس المجلس النيابي السابق في بيروت، يبحث مع قانونيين في إمكان مساءلة رئيس الجمهورية اللبنانية، الخارج من قصر بعبدا قبل أربعين يوماً. لم يقصد الفرزلي طبعاً الإشارة إلى الترابط بين سليمان وساركوزي.
ولا يطمح قطعاً إلى افتتاح مرحلة جديدة بين فرنسا لبنان، عنوانها ملاحقة حقبة مشتركة من المسؤولين والتبعيات والسياسات. من شيراك الذي نجا بنفسه بحجة الخرف، إلى قلق هولاند ذاته مما قد ينتظره إزاء النهج نفسه، مروراً بساركوزي، لكن أهم ما في خطوة الفرزلي أنها تؤشر أيضاً إلى ما يحصل اليوم من قلق وسجال حول وجود «داعش» في لبنان، وحول خلاياها اليقظة، في مقابل عيون الكثيرين النائمة من أهل السلطة والسياسة. وهو ما يطرح السؤال حول المطابقة بين مواقف هؤلاء اليوم وموقف سليمان بالأمس.
يبحث نائب رئيس المجلس النيابي السابق قانونياً، في جواز ملاحقة سيد بعبدا الأخير، حول مسؤولية مزعومة ما للرجل عما حصل ويحصل في لبنان من إرهاب منذ أعوام. أقله لجهة التقصير في القيام بمهمات رئيس الدولة، في «المحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه»، والحنث بقسمه الدستوري لهذه الناحية. ويبدأ الفرزلي من لحظة إعلان وزير الدفاع السابق فايز غصن في كانون الأول سنة 2011، عن وجود ما لتنظيم «القاعدة» في لبنان. ويرى الفرزلي أن سليمان بادر يومها، مباشرة أو بواسطة آخرين، إلى الرد على تحذيرات وزير الدفاع ومحاولة نفيها ودحض مضمونها. علماً أن كلام غصن يومها كان مستنداً إلى معطيات وفرتها له الأجهزة الأمنية الرسمية. وبالتالي يحدد الفرزلي واقعة أولى مفادها أن سليمان كان مسؤولاً بشكل ما، مباشرة أو مداورة، عن عدم الكشف عن وجود تنظيم إرهابي على الأراضي اللبنانية.
يسجل الفرزلي هذه الواقعة، قبل أن يربطها في البحث والقياس بواقعة أخرى أشد خطورة واتهاماً. وهي ما كشفه موقف بارز لزعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري، في 19 نيسان الماضي. ففي رسالة مصورة وزعت يومها، يكشف خليفة أسامة بن لادن عن سر الخلاف بينه وبين تنظيم «داعش»، حيال الصراع الذي يقوده التنظيمان الإرهابيان في منطقة المشرق، من العراق إلى سوريا وصولاً طبعاً إلى لبنان. يقول الظواهري في ذلك التسجيل ـــ الوثيقة الذي حمل عنوان «الواقع بين الألم والأمل»، أن السبب الأبرز للخلاف هو أنه «كان ثمة اتفاق بين الطرفين يقضي بعدم الإعلان عن وجود القاعدة في بلاد سوريا». وأن البغدادي، زعيم «داعش»، هو من أخل بهذا الاتفاق عندما قرر الخروج في عمله العنفي إلى العلن. واللافت أن الظواهري يرى أن هذه المسألة «ليست تقنية وحسب، بل استراتيجية أيضاً». أي إن الظواهري كان يريد إبقاء عمل إرهابييه سراً حتى يحققوا أهدافهم، فيكشفوها إذذاك ويعلنوا انتصارهم ودولتهم. وهو بذلك يقصد أن أي كشف لهوية تلك التنظيمات الإرهابية قبل تمكنها في الأرض ومنها، يمثل خطراً عليها وضرباً لمشروعها.
يسجل الفرزلي هذه الواقعة الثانية، قبل أن يطويها على سابقتها، ليطرح التساؤل الاتهامي التالي: إذا كان مخطط الظواهري يقضي بعدم كشف وجود «القاعدة» في مناطق عدة، منها لبنان، حتى لا يُضرب إرهابها وحتى تتمكن من تحقيق أهدافها وتنفيذ أغراضها، وإذا كان هناك مسؤول لبناني قد بادر في كانون الأول إلى كشف الأمر، والقول علناً إن الإرهابيين باتوا عندنا، وإذا كان في المقابل ثمة مسؤول لبناني آخر سارع إلى رفض ذلك وإلى العمل بعكسه، أفلا يكون عمل الأخير قد تقاطع من حيث يدري أو لا يدري، بشكل مقصود أو عن غير عمد، مع ما أراده الإرهابيون، وبالتالي أدى بشكل ما إلى تقصير السلطات اللبنانية في القيام بمهماتها في حماية لبنان واللبنانيين؟ ثم ألا يكون هذا التصرف، في حدوده الدنيا لجهة التقصير لا غير، مسؤولاً قانوناً عن سقوط ضحايا لبنانيين وغير لبنانيين خلال نحو أربعة أعوام، من جراء حصول عمليات إرهابية كان يمكن تجنبها واستباقها وإحباطها قبل وقوعها، تماماً كما فعلت الأجهزة الأمنية أخيراً، بعدما باتت مستنفرة حيال وجود الإرهابيين؟
لا تنتهي المسألة عند موقف سليمان من موضوع «القاعدة» يومها. بل هي تتكرر كل يوم. بالأمس أعيد استحضار المشهد نفسه مع الكلام عن وجود «داعش» في لبنان، عبر تسميات مختلفة، قد يكون آخرها ما حمل أسماء ألوية مذهبية تبنت تهديدات معينة. فاللافت أن بعض السياسيين سارع إلى تكرار أداء سليمان في نفي الأمر، والجزم بأنه مختلق ومفبرك. وهو ما يطرح المسؤولية القانونية نفسها تجاه هؤلاء.
تبقى مسألة أخيرة حول صحة تلك البيانات الإرهابية أو عدمها. مسألة تذكر بقاعدة علمية معروفة في علم الآثار. يقول الأركيولوجيون: ماذا لو وجدنا قطعة أثرية تمثل عملة نقدية، وثبت لدينا علمياً أنها تعود إلى قرون ماضية. هل نتساءل لحظة عما إذا كانت تلك القطعة أصلية صادرة عن سلطات تلك الحقبة، أو أنها مزورة من صنع آخرين في ذلك الزمن؟! طبعاً لا مجال للسؤال. لأنه في الحالتين، تظل القطعة نفسها دليلاً تاريخياً قاطعاً لنا حول شكل العملة في تلك الحقبة، وحول طريقة نقشها وملامح رسمها وحجمها وكل تفاصيلها. فالمزوَّر هو طبق الأصل في مجرد الدلالة عبر الزمن… بيانات التهديد باسم الإرهابيين هي طبق أصل الإرهاب ونياته وأهدافه وأغراضه. ويجب التعامل معها على هذا الأساس، إلا إذا كنا من الإرهابيين، أو من الذين يريدون أن يصيروا مجرد آثار.