إبني الأصغر في صف البريفيه. هو الآن يتهيأ للامتحان الرسمي (الذي ربما ينعقد وربما لا، على غرار كل الاستحقاقات الأخرى في هذا البلد)، ضمن برنامج صارم وضعه لنفسه، من أجل أن يكون على قدر متطلبات هذا الاستحقاق، فيتمكن من أن يتجاوزه بنجاح.
جميعنا في البيت “يُذاكِر” معه، على قول المصريين. وإذ رحت أسمّع له دروس التاريخ، وتحديداً الفصل المتعلق باستقلال لبنان وبرجالاته من أمثال بشارة الخوري ورياض الصلح وسواهما، شعرتُ بالخجل. أين لبنان اليوم من ذلك اللبنان؟ وأين رجال السياسة اليوم من أولئك العظماء؟ وأين المعايير السياسية اليوم من معايير تلك الأيام؟
إبني لا يستطيع أن يفهم الذرائع والحجج والأطروحات التي يطلقها هذا الفريق أو ذاك، تفسيراً لعجز الجسم السياسي اليوم عن تأمين الانتقال الدستوري لمنصب رئاسة الجمهورية، رمز سيادة البلاد واستقلالها.
هو يدرس حوادث محددة في التاريخ، لا يختلف عليها اثنان؛ من مثل تمكّن الأطراف السياسيين (المختلفين) في العام 1943، من انتخاب رئيس للجمهورية “من دون توافق”، واعتراف الجميع بهذه الحقيقة الدستورية، التي باتت عنواناً للكرامة الوطنية، وسابقةً تاريخية تؤسس لمفهوم القرارات الاستقلالية التي تُتخذ بمعزل عن الأجنبي، أكان عدوّاً أم صديقاً، بعيداً أم قريباً، “شقيقاً” أم غير شقيق.
قال لي ابني مساء أمس بالذات، بعدما راح يعدّ الأصوات التي نالها بشارة الخوري: إذا أمكن انتخاب هذا الرجل يومذاك بأكثرية 44 صوتاً، من أصل 55 نائباً وغياب ثمانية نواب عن الجلسة، ووجود ثلاث أوراق بيض، فلماذا لا يُنتخب اليوم رئيسٌ بالأكثرية؟ بل لماذا يعتبر البعض أن لا مكان لرئيسٍ للجمهورية إلاّ بالتوافق؟ ليخلص إلى التساؤل: كيف يكون لبنان “ديموقراطياً” إذا كان كل شيء فيه يجب أن يتم بالتوافق؟
إبني لا يعرف طبعاً أن التوافق المقصود ليس “داخلياً” ولبنانياً، وأن هذه هي طامتنا الكبرى: التوافق يجب أن يكون “خارجياً”، يتمّ إسقاطه علينا بطريقة مهينة، فنذعن له. لكنه خلص إلى سؤال يوازي خطورة الأسئلة السابقة: إذا لم يحصل “توافق”، فهل يجوز في “الديموقراطية” أن تبقى البلاد من دون رئيس؟
هذا كلام طفل في الرابعة عشرة من عمره، يتهيأ لامتحان الشهادة التكميلية الرسمية، التي يُفترض أنها في جيب كل نائب. ترى، ما رأي نواب الأمة، بهذا الكلام؟ وأيّ درسٍ “استقلالي” و”ديموقراطي” و”سيادي” و”أخلاقي” يتشدقون به أمام هذا الطفل؟
استنتاج بسيط: لا بدّ من إخضاع النواب لـ”استحقاق” البريفيه قبل الاستحقاق الرئاسي.