عطّلوها… ولم تكن الثالثة ثابتة عبر جلسات الإنتخاب الرئاسي، لأن «كولومبس» مجلس النواب لم يكتشف بعد الرئيس القوي، ولأن الفيلسوف اليوناني «ديوجين» لا يزال حاملاً قنديله في واضحة النهار مفتشاً عن رجل.
والرجل الذي لمْ تهتدِ إليه بوصلة المجلس النيابي، هو الذي أشارت إليه رسالة القديس بشارة بطرس الراعي الى أهل الإستحقاق الرئاسي، فحدَّدَتْ معالمه بكل تفاصيل شكله وشخصيته وتقاسيم وجهه ولون خدَّيهِ وعينيه، والرسم بالكلمات قد يكون أصدق تعبيراً من التصوير بالآلات.
إنها ورقة الإقتراع التي أسقطها غبطة البطريرك الراعي مكشوفة في صندوقة مجلس النواب وقد كتب فيها: «الرئيس القوي هو القوي بأخلاقه ومثالية حياته عبر تاريخه، يُنْتَخب على أساس سيرة ماضيه كيف عاش وكيف خدم الخير العام… وعلى الرئيس أن يكون توافقياً مقبولاً من الجميع ليلمّ الشمل، والرئيس المقبول من الجميع هو بذلك يكون الرئيس القوي».
هذا ما باح به البطريرك الماروني خارج كرسيّ الإعتراف، وهذا ما ردَّده غير مرة من على كرسي مجد لبنان، في لبنان وسائر المشرق والغرب.
لعلّ هذا التحديد البطريركي لمواصفات الرئيس، فيه ما ينقذ الجمهورية بقدر ما ينقذ المارونية، وينقذ بالأخص المرشحين الموارنة من هوَس الجنون الرئاسي.
وعندما يصبح الثوب الماروني معرّضاً للتمزُّق لأن الجسم منتفخ بفعل الورم… وعندما تنقسم المرجعيات المارونية السياسية على نفسها والسيوف تتبرّم في الأغماد… تصبح المرجعية المارونية الروحية هي الأقوى، وإليها ترجع الكلمة الفصل.
الموارنة الذين قيل إِنهم مرشحون كبار، عندما ينقسمون على حدّ السيف، وعندما يرتبط ترشحهم بشرط «الأنا» أو «اللاّ أحد»، يصبح الكبير منهم صغيراً والقوي ضعيفاً، ويصبح المرشّح الأقوى هو «اللاّ أحد».
يوم كان رئيس الجمهورية في لبنان ملكاً متوَّجاً والصلاحيات التنفيذية كلّها بين يديه، كان يسقط هزيلاً عندما يصبح رئيساً غير مقبول من الجميع ويسقط معه صولجان الجمهورية.
واليوم، بعدما خطف الطائف الصلاحيات الرئاسية، فقد أصبحت شخصية الرئيس الوفاقية، وشخصية الرئيس التي تجمع الشمل بالحكمة والعقل، هي التي تشكل مصدر القوة للرئيس القوي والحكم القوي والجمهورية القوية.
ومع الحكم القوي يكون لبنان القوي… ومع الحكم الضعيف يكون لبنان الضعيف.
والحكم القوي هو برئيس الجمهورية القوي.
والحكم الضعيف هو بجمهورية الرئيس.
في ظل ما يخيّم على لبنان من غمامات سود تهدد الجمهورية والنظام والدولة والشعب، وفي ظلِّ شَبَحٍ إسمه الشغور الرئاسي، فقد يحضُرُني الوصف الذي أطلقه الزعيم كمال جنبلاط على قصر بعبدا عندما سئل عن رأيه بعد إنجاز القصر في الستينات فقال: «يا عميّ هذا قصر؟ هذا كازينو».
ولأن مسؤولية الشغور الرئاسي هي مسؤولية مارونية بالدرجة الأولى بسبب هوية الرئاسة، وأهواء الزعماء الموارنة الكبار الذين إنْ لم يتنازلوا عن المكابرة وأنانية أهوائهم، فليس من المستبعد أن يتحول القصر الرئاسي الى كازينو، بلْ الى مسرح لحلقات الرقص الشعبي في أسرة كركلّلا، وعند ذاك تصبح «شيمة أهل البيت كلهم الرقصُ».