تظهر معركة عرسال المعقّدة، ومن قبلها معركتا الضنية ونهر البارد، أن الجيش اللبناني أكثر مؤسسات الدولة حيوية وحضوراً، وأنه موضع إجماع القوى السياسية وإن أفلت بعض النقد بين آونة وأخرى.
ففي ارتهان المؤسسات السياسية إلى الوصاية السورية ثم إلى فوضى التشرذم، لم يبق سوى القوات المسلحة كياناً ملموساً مجمعاً عليه، خصوصاً أن هذه القوات تضم لبنانيين من مختلف الطوائف والمناطق، وأن تنظيمها قائم على التنوّع، فلا تنفرد أي كتيبة في الجيش وأي مخفر للشرطة أو الدرك بانتماء مناطقي أو طائفي واحد. هكذا يجد المواطن في القوات المسلحة الشرعية صورة لبنان الوطن، أو ما تبقى من الصورة التي مزّقتها صراعات السياسيين واستقطاباتهم الإقليمية.
وكلما خسر فريق لبناني بعض مواقعه أو انحسرت امتداداته في مناطق الشركاء الآخرين علا صراخه بأن الوطن في خطر. ولكثرة الصراخ لم يعد الإقليم أو العالم يصدق نداءات اللبنانيين، بل يعتبرها فولكلوراً سياسياً أشهر من أغانيهم العذبة ومن مطبخهم الحافل بالطيبات.
لا صراخ هذه الأيام، لكن الدولة اللبنانية بلغ بها الهزال إلى حد وضع الوطن في مهب رياح الشرق، وما أشدّها وما أخطرها بعدما هدمت الاجتماعين العراقي والسوري، كما عكفت على فلسطين لتقسّمها موضوعياً إلى غزة والضفة اللتين لم تبلغا بعد مستوى الدولة المتعارف عليه.
خلا كرسي رئاسة الجمهورية من اللبناني الأول، وتجمّد عمل البرلمان، وانحسر إنتاج حكومة الوفاق إلى ما يشبه إنتاج جامعة الدول العربية، أي إصدار القرارات المجمع عليها وتأجيل المختلف عليها مهما كانت أهميتها والضرورة.
وإضافة إلى تراجع المؤسسات الدستورية، هناك انكفاء لدى الجماعات السياسية (يمكن أن نقول الطائفية أو المذهبية) إلى حد جمود الحوار اليومي على المستوى الشعبي، وانعدامه على مستوى القيادات، تلك التي يعلو صوتها يومياً بالذرائع وبالتحريض على شركاء الوطن، وبضخّ العصبية (ولنقلْ التعصّب الأعمى) في قاعدة شعبية تنصر نفسها ظالمة أو مظلومة.
يبدو وضع الجيش والقوى الأمنية استثنائياً لأسباب، أولها الالتزام بالقرار السياسي الذي تجمع عليه الحكومة، وثانيها حاجة اللبنانيين مهما بلغت الخصومة إلى ضبط أمني شرعي يمثله الجيش وقوى الأمن، وثالثها حذر الحكومة والقوى السياسية الكبرى من انقسام السلاح الشرعي كما حدث خلال الحرب الأهلية، فاحتاج رأب الصدع آنذاك إلى جهود محلية استثنائية ودعم إقليمي ودولي حاسم.
مثل هذا الانقسام لا يتحمّله لبنان اليوم، فقد يودي به إلى منزلقات سبق أن خبرَها، وتبدو ماثلة أمامه آثار انحلال السلاح الشرعي في الكارثتين العراقية والسورية.
تنهار مؤسسات الدولة المدنية اللبنانية وتحتفظ مؤسساتها العسكرية بقوّتها الناتجة من إجماع نادر. إنها كيمياء الانهيار اللبناني التي تتفهّمها قوى إقليمية ودولية، فنجد المملكة العربية السعودية تمدّ يد المساعدة بسلاح فرنسي، وترافقها الولايات المتحدة بإرسال سلاح وذخيرة على جناح السرعة.
من كيمياء الضعف المدني والقوة العسكرية قد يكتسب لبنان القدرةَ على عبور المرحلة الخطرة في المشرق العربي، في انتظار خرائط جديدةٍ للقوى المتنازعة ولعلاقاتها الإقليمية والدولية.