كان ضرورياً ان توجد داعش وأخواتها كي ينجح النظام العالمي في الإيهام بأن ما يهدد الإنسانية هو هذا الوحش البشري، ذي الدين الإسلامي، الذي ارتكب من الفظاعات ما يفوق التصور. وكان ضرورياً ان تهدد داعش المنطقة المعروفة بتعدديتها على مدى التاريخ كي تبرر نفسها الدعوات لتدخُّل الغرب لا للسيطرة بل من أجل الحضارة. وكان ضرورياً وجود داعش كي ينسى العالم تناقضات الرأسمالية ومآسيها، وكي ينسى أهل المشرق ان الغرب سبق وان غزا باسم الدين تارة، وباسم نشر الحضارة تارة أخرى، وباسم حقوق الإنسان تارة ثالثة، ورابعة، وخامسة… وكان ضرورياً ان توجد داعش لينسى أهل المنطقة مطالبهم في وجه الطغاة واستبدادهم من أجل «العيش والكرامة والعدالة».
تشكل الحلف العالمي لمحاربة الإرهاب. صار يضم أطرافاً متناقضة كانت تقاتل بعضها بعضاً حتى الأمس القريب. يشمل هذا التحالف الغرب كما روسيا وتركيا وإيران وحكومات الاستبداد العربي وقوى علمانية وأخرى ثورية. لا يكفي ان تكون أنت ضد «داعش» واخواتها، وان تناضل ضدها، بل أكثر من ذلك؛ أن تزايد على نفسك من أجل إظهار حسن النية.
«داعش» ترتكب مختلف الجرائم. هي تقتل وتدمر وتهجر. هجرت أقليات لها حقوق تاريخية في هذه المنطقة، بل ان حقها بالاستمرار يساوي وجودها التاريخي الذي سبق ظهور الإسلام بوقت طويل. أن تفقد المنطقة تعدديتها شر لا يقل مأساوية عن ارتكاباتها الأخرى. والتعددية لا تكون إلا في إطار الدولة، حيث يمكن للإنسان ان يمارس فرديته، وحيث يتوجب ان يواجه الدولة من دون وسيط من طائفة أو اثنية، وحيث يواجه الله كمؤمن اختار ما ولد عليه، من دون ان يكون محشوراً كرقم في سجلات الانتماءات الدينية. في الدولة الحديثة يكون الدين من أجل الإنسان الفرد، ولا يكون هذا أداة بيد الدين. الدولة الحديثة كيان مجرد مطلق؛ وهي تتطلب وجود الفرد أيضاً ككيان مجرد مطلق. الهوية المعطاة تدمِّر ولا يكون الإنسان حراً إلا عندما يكون فرداً يصنع هويته. ولا ننسى ان كلا منا متعدد الهويات، ومنها الهوية الدينية؛ وهذه تتخذ الأولوية عندما تتعرض الجماعة للخطر.
نجحت «داعش» في حربها ضد الحضارة الإنسانية، وضد تطورها نحو انتظام الناس في دولة. لكن الطرف الأقوى في الحلف ضد الإرهاب نجح أيضاً في تدمير دولة العراق (وأفغانستان قبلها) وفي إعادة تشكيل المجتمع في إطار مكونات طائفية ومذهبية على حساب الدولة والفرد، وأسس بذلك لحرب أهلية مستدامة في العراق.
جميعنا في مأزق، سواء كنا من الأقليات أو الأكثرية (الأكثريات تهذيباً). إذا نجح الغرب في إعادة غزو المنطقة (وهم لم ينسحب منها، أصلاً) لدحر «داعش»، وهذا ما يتمناه الجميع، إذ ان ذلك له الأولوية الزمنية، فإنه سوف يعيد تشكيل المنطقة ومجتمعها على أساس الطوائف والمذهبيات والهويات المعطاة، من دون الأخذ بالاعتبار أهمية الفرد في مواجهة الدولة. تفقد الدولة سيادتها مع التدخل. ويفقد الإنسان فرديته. هذا ما علمتنا إياه تجربة العراق. سيؤدي تعميم التجربة على مستوى المنطقة إلى حروب أهلية مستدامة أخرى، وسوف يجر ذلك الخراب والدمار على الجميع.
بنى الغرب سياسته على ان شعوبنا قبائل بدوية وطائفية ومذهبية واثنية وقومية. ولا شيء يشير إلى انه لن يتصرف على هذا الأساس بعد الانتصار الموعود على داعش واخواتها. لقد ساهمت (ونجحت) الأوضاع الراهنة من الحروب الأهلية إلى تدخلات الغرب، إلى حلفاء الحرب على الإرهاب، في إحالة إرادة الشعوب العربية إلى التلاشي. نسي الجميع طالب الحرية والكرامة والعدالة، وصار المطلب الوحيد هو الخلاص من «داعش»؛ للبقاء على قيد الحياة.
سوف ينجح الحلف العالمي على الإرهاب في القضاء على «داعش». وسيكون أمراً غريباً (تآمرياً) إن لم ينتصر. وسوف يعيد الطرف الأقوى في هذا التحالف (أي الغرب) تشكيل دول ومجتمعات هذه المنطقة. لكن مناداتنا الغرب سترتد علينا ان لم نطالبه بإعادة رسمنا على صورته لا على الصورة المعتبرة موروثاً تاريخياً؛ علماً بأن هناك شكوكاً كبيرة حول صحة هذه الصورة.
خلق الله الإنسان على صورته؛ فهل يعيد الغرب تشكيلنا على صورته في التعددية وفردية الإنسان وأولوية الدولة على الطوائف؟