«يا فاتح الأرض ميداناً لدولته صارت بلادك ميداناً لكلّ قوي
يا قوم هذا مسيحكم يذكركم لا ينهض الشرق إلّا حبنا الأخوي
فإن ذكرتم رسول الله تكرمة فبَلّغوه سلام الشاعر القروي»
الشاعر القروي
في مسرحية «جبال الصوان» للأخوين رحباني كان «مدلج»، «قَيدوم جبال الصوان» يقاوم «فاتك المتسلّط» وعصابته من القتلة على أبواب القرية. بقي معه ثلّة من الرجال إلى أن أدرك أنّ الخوف دخل إلى قلوبهم فأمرهم بالتفرّق، ووقفَ هو وحيداً ليُعلن أنّ جباله لم تستسلم ولن تسلّم المتسلّط من دون مقاومة.
قتل مدلج ولكنّ شعلة الحرية بقيت في آمال الناس وأغانيهم وأفراحهم، إلى أن عادوا وثاروا من جديد وطردوا المتسلّط وعصابته. إنّ أسطورة جبال الصوان تشبهنا، فكلما تعمّم الخوف دخل علينا المتسلط، وكلما وقفنا معاً وقفة مدلج هزمنا الخوف والموت والتسلط.
لا أريد أن أغرق في المواعظ الخرقاء، ولست أنا بواعظ على كل الأحوال، فلست أدّعي أنّ الخوف لم يدخل يوماً إلى قلبي، أو أنني لم أفكر يوماً بالهروب إلى بلد لا هواجس فيه! لكن الغربة والشماتة وعزة النفس منعوني دائماً من الهروب، فعندها كنت ألجأ إلى تحليل خوفي للوصول إلى تسوية معه أو الانتصار عليه وتجاهله.
لكن أيّ تسويات تصبح مستعصية عندما يكون أصل الخوف هو الهواجس، وتصِل الحلول إلى حد الإستحالة عندما تكون الهواجس معممة على مجموعة ما يتداخل فيها الواقع بالأساطير والحقائق بالأوهام والتجربة بالأفكار المسبقة، والبحث الموضوعي بالفرضيات وأقاصيص الجدّات بآمال الأحفاد، فتتحول الهواجس إلى يقين ويصبح هذا اليقين شعاراً لمجموعة تتصرّف على هدايته حتى لَو أوصلها إلى الكارثة.
في بلدنا هواجس بعدد الطوائف، وكلّ يظن أن هاجسه هو غير هاجس الآخر، وأنّ هذا الهاجس هو الحقيقة المطلقة، وأن كل هواجس الآخرين هي زائفة أو مفبركة. ولو تفحّصنا هذه الهواجس بمجملها لرأيناها متشابهة إلى حد التطابق في المضمون والتعابير.
كلها يتحدث عن الآخر بالجملة، متجاهلاً الأفراد ومتغاضياً عن كل اللحظات المضيئة، ومركّزاً على المساوئ بحيث تنسب اللحظات القاتمة إلى الطائفة الأخرى بكل أفرادها، أمّا اللحظات المضيئة فتتحول إلى نوادر عابرة لأفراد «لا يعبّرون عن حقيقة طوائفهم!».
أمّا في المضمون فتنسب الصفات «العاطلة» بكل أفراد الطائفة الأخرى، مثل العنف والخبث والحقد والتخلف وغيرها، وإن كان أحد أفرادها شجاعاً يصبح متهوراً وإن كان كريماً يصبح منافقاً وإن كان متواضعاً يصبح وضيعاً وإن كان موضوعياً ومعتدلاً ومتسامحاً يقال عنه «كأنه لا ينتمي إلى تلك الطائفة!».
أمّا عن مسوّغات الهواجس فحَدّث ولا حرج، وهي بالمجمل تخلط التاريخ بالأساطير، وتبتعد عن الموضوعية في التحليل، وتتجاهل كل ما لا يؤيد يقينيّاتها التي تعتمد على فرضية مقدسة تجرّد الآخر حتى من واقعه كبشريّ ليتحوّل جزءاً من مجموعة أو دابة في قطيع يتحرك ويتصرف وفق برمجة مفترضة بطائفته.
ما لنا وكل ذلك، فعلاج مرض الهواجس هو من أصعب المسائل في الطب النفسي، ولكن أحد أهم وسائل بدايات العلاج تكمن في الاقتناع بوهمية الهواجس، وبالتالي محاولة تبديد الخوف النابع من هذه الهواجس.
هذا الخوف الموروث منعنا في تاريخنا الحديث من أن نبني على حلم البطريرك الحويك بوطن تعددي، ودفعنا إلى الاستعانة والاسترهان لكلّ قوة قد تعيننا على الآخر، فتتحوّل هذه القوة التي استعَنّا بها إلى مستعبد ومضطهد يفوق بأضعاف حتى الهواجس من الآخر المحلي.
اليوم يضعنا الخوف أمام تحد جديد هو تحدي الإرهاب المتمثّل بداعش والنصرة ومثيلاتهما، وخطورة هذا التحدي لا تنبع فقط من هذين التنظيمين الإرهابيين، بل انها تكمن في تَشعّبات هذه القضية وترابطها مع قضايا محلية وإقليمية من ضمنها الحالة المذهبية ومشروع ولاية الفقيه وارتباط أنظمة متسلطة به، وتسلّط حزب الله في الداخل اللبناني وتمدده إلى خارج الحدود لحماية مشروع ولاية الفقيه.
وبسبب اللون المذهبي الذي ترتديه داعش والنصرة، أصبح كل سنّي في موقع الإتهام، وأصبح السنّة في موقع الحاجة إلى رد التهمة عنهم. كما أن الخوف من العنف الفوضوي الذي يمثله الإرهاب دفع البعض، ومن كل الطوائف، إلى الحنين إلى زمن الديكتاتور مُتناسين أنه يمثّل الإرهاب بحد ذاته، ولولاه لَما نَمَت بذرة الإرهاب الفوضوي اليوم.
إنّ هذا التحدي يجب أن يدفعنا اليوم إلى الانتصار على هواجسنا وإلى هزيمة الخوف وإلى الوقوف صفاً واحداً للدفاع عن حريتنا وعن وجودنا وعن حلمنا وحلم أبنائنا بوطن حرّ متعدد ديموقراطي، وأن نقول بكلّ عزم وثبات «لا مكان للتطرّف بيننا، لا مكان للديكتاتور، ولا مكان للخوف أو التراجع أمام الإرهاب الذي يمثلانه».