العالم كله يخوض معركة الاندماج، والشرق يخوض معارك الانفصال.
أثناء مباريات المونديال الأخيرة، لاحظ المتابعون أنه ما من فرقة أوروبية إلا وضمت في صفوفها لاعبين ذوي اصول إسلامية أو عربية أو افريقية. أوروبا خطت خطواتها الحاسمة نحو دمج الأعراق والأديان والثقافات. فهذا هو عالم اليوم: قرية كبيرة، منفتحة، متسامحة، مضيافة، مختلطة… على صورة لبنان.
الشرق عاد الى البدايات القاتلة، تلك التي أرهقته طوال عقود. كأن الأبالسة القديمة لا تزال متيقظة في الأماكن إياها. العنف يضرب باسم الدين والمذهب. والمقدسات تتهاوى مع المعالم الدهرية أمام عمى الجهل وانغلاق الأفكار والقلوب.
كانت العلة الأساسية في الشرق في أنظمته المستبدة. انغلق الحكام على هواجس البقاء، فأغلقوا أبواب الأفكار وفتحوا أبواب السجون. فالشرق خرب اليوم لأنه يتململ. والتململ تحول الى صراخ وثورات جبهت بالحديد والنار. إذ طوال عقود أفتى هؤلاء الديكتاتوريون بأن أوان الحرية والديموقراطية لا يلائم شعوبهم، فهمّشوا وأقصوا واعتقلوا وقتلوا من لا يشبههم في الفكر أو المعتقد أو التوجه السياسي. فهاجرت النخب العربية الى المنافي، وامتلأت عواصم الحريات في أوروبا وأميركا بالمبعدين العراقيين والليبيين والسوريين والتونسيين الذين لم تتسع لهم الأمكنة في بلادهم.
من لا يشبههم في المعتقد. تلك هي كل القضية. وذلك هو أصل التحديات كلها التي يواجهها الشرق، والشرق العربي تحديدا. وذلك هو من أخطر ما يواجهه لبنان اليوم، اي خطر انتقال عدوى الفرز الطائفي إليه، الذي حسمه بالحل الآخر كأساس لوجوده ومبرر له عندما قضت الظروف الطبيعية والتطورات التاريخية الطويلة والمضنية بأن ينشأ ذلك الكيان كما نشأ عام 1920، وأن يسجل في دستوره عام 1926 أن حرية المعتقد مطلقة. فاختلط لبنان بأديانه وطوائفه ومذاهبه بشكل سبق الديموقراطيات المتقدمة وفي صورة تناقض كل ما كان قائما في الشرق. هنالك من أحبه ودعمه واعتبره حاجة لهذا الشرق، وهنالك من تبرم من صيغته تلك ومن حرياته الوقحة في مفهومهم، ومن أزدهاره واشعاعه وانفتاحه فعاداه، مثلما فعلت إسرائيل، فتدخل في شؤونه واحدث فيه الخراب المعروف، والذي لا تزال آثاره حتى اليوم.
وعندما اكتشف المصريون حرية المعتقد كما جاء في وثائق الأزهر عام 2012، وعندما سجل التونسيون في دستورهم العام الماضي هذا المبدأ، كان الربيع العربي قد تحول الى ما يشبه البارقة التي لم تجد بمائها. ومع ذلك قال بابا الأقباط تواضروس للرئيس سعد الحريري في العام الماضي أن المصريين أصبحوا يتكلمون مثل اللبنانيين عن “العيش المشترك”. هذا حسن، وتلك هي خطوة على طريق الألف ميل للشعوب الأخرى، ولو من خلال الوضع الشديد المأسوية لما يجري في العراق وسوريا. إذ لا يمكن أن تصل الأوضاع الى أسوأ مما هي اليوم. وصل العراق وسوريا الى قعر الهاوية في الصراعات الداخلية التي لها أسماء عديدة، ولكن الى أين أكثر من ذلك؟ الى أين أكثر من الغرائز البدائية، التي تجلت في الموصل حديثا مع قرار طرد المسيحيين منها الذين يعود وجودهم فيها الى قرون سحيقة، هل يمكن أن يحصل المزيد؟ ربما. ولكن ماذا بعد ذلك، التقسيم، الفيديرالية، النزوح، هذا كله حصل أو يمكن أن يحصل. هل المطلوب كيانات جديدة غير التي انشئت بعد الحرب العالمية الأولى، أم مكونات خاصة داخل الكيان الأكبر. كله مطروح اليوم أمام أعين العالم وعجز العالم، وتوجيه الاتهامات الى المسؤول أو المسؤولين عن كل هذا الخراب، ودور أميركا في كل ذلك، وهو نقاش غير مفيد في مسيرة التطلع الى الأمام.
لبنان موضوعه مختلف. لا بل إنه شديد الاختلاف عن غيره. الخطر الحقيقي على لبنان هو ألا ّ يغامر به أحد لا لحساب الخارج ولا لحساب الداخل. التورط في الحروب السورية هو من دون شك من الأخطار الكبرى. ربطه بالمحاور هو تهديد لكيانه. تماما مثل محاولات ضرب صيغته وتغيير نظامه، وتبديل اصول الحياة الديموقراطية فيه، وتحديدا الحياة الانتخابية.
فمثلما كان النظام السياسي على صورة التكوين البشري، كذلك كان النظام الانتخابي، فالنظام الانتخابي، منذ اعتماده عام 1922 كبداية للحياة التمثيلية في لبنان الكبير ذكر أن “مجموع الناخبين في الدائرة الانتخابية، في كل هيئة انتخابية، وبدون تميز بين الطوائف، يصوتون للمرشح أو المرشحين للأنتخاب”.
وهكذا، مع بداية التكوين، أدرك الجميع أن الاختلاط الذي يجيء من عمق التاريخ، هو إحدى ركائز النظام المنوي إرساؤه. وهذا ما حصل. وهو ما تم احترامه منذ اثنين وتسعين عاما وحتى اليوم.
فالنظام الانتخابي هذا ولد قبل الاستقلال وقبل الميثاق. إنه الصيغة. إنه العيش الواحد على الأرض، في اختلاط القوى وحتى الأحياء. فالاختلاط هنا هو ملح الأرض اللبناني. وهكذا فإن اي طرح بديل من شأنه إدخال لبنان اليوم في أتون المنطقة وفرزها الطائفي والمذهبي. فكرة أن الطوائف تنتخب ممثليها بصرف النظر عن انتمائهم المناطقي، تهدد المرتكزات الأساسية للبنيان اللبناني برمته. لأنه لا يبقى من العيش المشترك سوى المساكنة بالإكراه، ولأن سر هذا العيش المشترك ليس فقط قبول الآخر واحترامه بل تكوين هيئة ناخبة موحدة معه، تحوّل أبناء الطوائف الى مواطنين، وهذا ما حصل مع القوانين الانتخابية المتعاقبة منذ 1922 وحتى 1960.
فما الذي دفع البعض، بعض المكونات المسيحية تحديدا، الى طرح فكرة الانتخاب الطوائفي؟ هل هو الخوف من مجهول الأحداث العربية المجاورة؟ هل هو بحث عن حماية ذاتية ما؟ هل إنه اعتراض على شكل المناصفة في رأيهم؟ أم أنه محاولة من البعض لتكوين كتل وازنة تتجاوز المناطق الجغرافية؟ وفي سبيل ماذا؟ أين هي مصلحة المسيحيين في النتيجة؟
هل إن مصلحة المسيحيين في لبنان منفصلة عن مصالح سائر اللبنانيين من أبناء الطوائف الأخرى، إذا كان العيش الواحد هو القاعدة التي تصون الجميع في النظام المعتمد، في احترام الوفاق والنصوص معا؟
إن مجلس النواب في لبنان ليس مجموعة نواب يمثلون طوائفهم. ويجلس بعضهم الى جانب البعض الآخر. عام 1953 كتب المفكر ميشال شيحا، أحد آباء الصيغة اللبنانية وواضعي الدستور: “إن مجلس النواب اللبناني ليس ثمرة نظرية ديموقراطية للحياة الوطنية، بل إنه شرط إرادة العيش معا”. والعيش معا يعني تأليف جسم واحد، ولو باتجاهات سياسية مختلفة، ولكن بتطلع وطني واحد، ضمن المؤسسة التي تجمعهم.
فالالتقاء في مجلس النواب ليس لممثلي الطوائف فقط بل للمناطق بالدرجة الأولى. فالتوزيع الطائفي هو توزيع مناطقي. وهذا هو العامل الأبرز في تثبيت اللبنانيين في مناطقهم، الى أي طائفة انتموا. فلو حصل الاختيار على أساس الانتماء الطائفي وحده لحصل فرز يشبه النزوح غير المباشر.
فالتكوين المتعدد الطائفة في لبنان عميق في التاريخ، وهو سبق قيام الدولة بقرون، وإلا كيف يمكن تفسير اختلاط المناطق والقرى بهذا الشكل؟ وهكذا فإن النائب لا يأتي من طائفته فقط بل من منطقته. فأي قضية سوف يحملها نواب الطوائف الى مجلس النواب ما داموا ممثلي الطوائف؟ هل تبقى مسائل الإنماء والتطور هاجس الذين انتخبوهم، أم النطق باسم ما يرونه من مصالح لطوائفهم فقط؟
إن النتائج السلبية أوسع من أن تحصى. ولعل البعض نسي أن لبنان عرف في بعض مراحله الاستقلالية أحزابا مختلطة، ليس فقط في تجربتي “الحزب الدستوري” و”حزب الكتلة الوطنية”، بل في تجارب حزب الوطنيين الأحرار بزعامة الرئيس كميل شمعون الذي كان من أركان حزبه شخصيات مسلمة عديدة معروفة. وكذلك كان الحزب التقدمي الاشتراكي مع كمال جنبلاط ووليد جنبلاط. ومع الكتل النيابية المختلطة بوضوح التي تمحورت حول تلك الزعامة، فأين الضرر في ذلك؟ تاريخ لبنان يشهد على زعامات قيادية منفتحة ذات تطلع وطني جامع. فهذا كان ولا يزال من صلب الحياة السياسية اللبنانية بموروثها ومستجداتها. ولماذا أخذ البعض على تيار المستقبل اختلاطه، هل لرغبة في تحويله الى حزب سنّي، ترتاح إليه الأحزاب الأخرى ذات الألوان الطائفية أو المذهبية، وهو ما كان مرفوضا لدى الرئيس رفيق الحريري ولا يزال مرفوضا لدى الرئيس سعد الحريري وقيادة المستقبل.
إن تعدد الأحزاب ذات اللون الطائفي أو المذهبي لعلها تمثل مرحلة موروثة من سنوات الحروب. وليس قدر الحياة السياسية برمتها أن تصير على صورة بعض الأحزاب. بل من قدر الأحزاب أن تتحول وتنفتح. فانطواء الطوائف على ذاتها مغامرة تضرب كل ما يمثله لبنان. تضرب أوصاف البابوات عن “الرسالة” و”النموذج”، تضرب أمل المجتمعات الباحثة عن حلول لتنوعها. لأن لبنان وحده في الشرق، وربما في العالم، من مثـّل ويمثل تلك القيم. فهو مستقبل العالم. وليس بمستطاع هواجس البعض أو أحلام البعض، أو طموحاتهم الهوجاء أن تضرب تلك التجربة التي هي أصلب بكثير من المغامرات القاتلة.