كلام في السياسة |
يقولون في علم التواصل إن «صورة واحدة تساوي ألف كلمة». غير أن الأمور عندنا لا تكفيها الصورة، بل تقتضي غالباً المزيد من الكلمات لإيضاحها. هي حال البعض على ما يبدو، ممن لم يتوقف كفاية ولم يستخلص مضامين تلك الصورة التاريخية التي رصدت قبل أيام، مصافحة ريتشارد مورفي ومخايل الضاهر في افتتاح مبنى عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت.
ثلاثة رجال بين ثلاثة بلدان وأمثولات ناقصة. عصام فارس كان لماحاً في استخلاص الدرس إنسانياً وسياسياً. أدرك سريعاً أن الاستثمار الوحيد الناجع والمجدي والمستدام في هذه الأدغال المشرقية، هو الإنسان. لا مصالح النفوذ ولا الألقاب ولا المناصب ولا المراكز. انعتق منها كلها. تركها كما دخلها. ولم يبقِ إلا هامشاً وحيداً للشخص العام فيه، هو استثماره في العنصر البشري، وتحديداً في الشباب منه، علّه يحصد غداً مغايراً لليوم الذي هرب منه، وللأمس الذي عايشه وخبره. مخايل الضاهر لم يكن أقل اجتهاداً في فهم درسه الذي مضى عليه أكثر من ربع قرن. أدرك أن شرعيته الحقيقية والثابتة والباقية، تبدأ من القبيات، لا من دمشق ولا من واشنطن، قبل أن تصل إلى أي مكان آخر. وهي لا يمكن أن تنبثق من كلمة سر خارجية، حتى ولو كانت مشتركة بين نائب حافظ الأسد حاكم المنطقة، ومبعوث رونالد ريغان حاكم العالم. أما مورفي فحفظ درسه بصمت. انسحب من الحياة العامة بشبه خيبة. لم يعترف بأنه نكبنا مرتين: مرة أولى بتغطيته دخول الجيش السوري إلى لبنان يوم كان سفيراً في دمشق سنة 1976. ومرة ثانية يوم أعدمنا ببدعة «التعيين أو الفوضى» سنة 1988.
غير أن ما كابر مورفي في إخفائه باتت تظهره سياسة بلاده راهناً. فصارت واشنطن أقل «تدخلاً» في انتخاباتنا على الأقل. وصار سفيرها عندنا أكثر حصافة ورصانة وواقعية وحكمة…
لماذا استذكار كل ذلك الآن، بعد 26 عاماً وبعد أيام على الصورة؟ لأن كل ما عندنا اليوم يستعيد المشهد القديم. وخصوصاً مناسبة الكلام على لائحة رئاسية لدى بكركي. سمير جعجع تحدث عنها علناً. وهو الذي تقارب مع سيد الصرح في الأسابيع الماضية كثيراً، والتقاه مراراً وتكراراً. لا في صالون بكركي الكبير البارد، بل في المكاتب الصغيرة الحارة والضاجّة بكل ما يكتب وما يحفظ. أصلاً، لم تصدر بكركي من جهتها أي نفي رسمي لرواية جعجع عن لائحتها. والعارفون بدقة جعجع يجزمون بأن نفياً كهذا لا يمكن أن يصدر أبداً. أكثر من ذلك، يؤكد عارفون بالخفايا، أن نعم، أن اللائحة موجودة. وهي كانت تضم أربعة أسماء. هم تماماً كما ذكرهم جعجع، أربعة وزراء سابقين: روجيه ديب، دميانوس قطار، زياد بارود … أما الاسم الرابع فكان الوزير السابق ابراهيم الضاهر. اختيروا بعناية ممن لا يملكون أي تمثيل نيابي أو شعبي، كي لا يحرجوا أي طرف. يقول العارفون إن نقاشاً جرى حول الأربعة. اسم الضاهر أثار حساسية جعجع البشراوية. لكن استهدافه حصل تحت عنوان «التركة السورية». قيل إن الرجل عيّن وزيراً في ذروة الوصاية وحكومة اغتيال الحريري. الذريعة نفسها طاولت شظاياها الوزير السابق قطار. هو أيضاً كان مستشاراً لإميل لحود، وكان قد رافق عهود الوصاية من مواقع مختلفة. غير أن التحفظ على قطار بدا مجرد تغطية، فيما المطلوب شطب الضاهر.
وهذا ما كان. فصمدت أسماء ثلاثة.
أما أين انتهت تلك اللائحة ولماذا كشفها جعجع؟ يقول عارفو الخفايا، إن بحثاً جدياً كان قد جرى حول تسليم اللائحة إلى جون كيري، أثناء زيارته بيروت. غير أن خبراً أكيداً وصل في اللحظات الأخيرة، مفاده أن ناظر خارجية واشنطن لن يكون مهتماً بها. وأنه على العكس، آت ليؤكد أن لا مرشح لدى إدارته ولا فيتو لها على أي مرشح. وأن انتخاب رئيس للبنان هو شأن لبناني داخلي. حتى قيل إن أي محاولة لتسليم اللائحة قد تقابل برفض واضح، وإن بلغة دبلوماسية مهذبة. عندها صار السياق مثالياً لكشف لائحة بكركي من غير بكركي. وهو ما يصيب وفق حسابات البعض أكثر من ضحية بطلقة واحدة: أولاً، محاولة الإيقاع بين بكركي وعون. ثانياً الإيحاء بالتقرب من الصرح وموالاة خياراته. ثالثاً، حرق أسماء اللائحة من باب تبنيها ومن دون الحاجة إلى رفضها. ورابعاً وليس أخيراً، دفع بكركي تلقائياً إلى خيار رئاسي يكون أقرب إلى من تبنى لائحتها، ولو شكلاً وعلناً…
في الكتاب الوثيقة ـــ الكنز، «حارس الذاكرة»، الذي حققه الزميل جورج عرب عن مذكرات البطريرك صفير، ثمة دروس وعبر لا تنتهي من الاستحقاق الرئاسي عام 1988، لا تزال حية صالحة وضرورية لاستحقاق اليوم. منها مثلاً أن جردة سريعة بأسماء الذين طلبوا من بكركي إدراج أسمائهم على لائحتها الرئاسية، تظهر أن عددهم فاق الأربعين مرشحاً. كل منهم يعتبر نفسه مستحقاً. وكل منهم يرى أن ظروف وصوله هي الأمثل والأفضل، علماً بأن بعضهم مغمور ولا يعرفه حتى البطريرك. ومن تلك العبر أيضاً أنه قبل عشرة أيام على الشغور الرئاسي يومها بنهاية ولاية أمين الجميل، كتب سيد بكركي في 13 أيلول 1988، أن جعجع جاءه يعرض عليه أن يكون البطريرك هو الرئيس المقبل. ويكتب صفير أنه أجابه بما معناه: هذا طرح يجعلنا نخسر بكركي ولا نربح الرئاسة!