شدّد الرئيس الأميركي باراك أوباما، في مقابلة مع الصحافي طوماس فريدمان، على أن واشنطن لن تتدخل جدياً في مناطق كالشرق الأوسط حيث التعددية (الدينية والإثنية والثقافية) من دون أن يكون هناك اتفاق بين مكوّنات الوطن على أساس «لا غالب ولا مغلوب».
ليست هذه المرة الأولى التي يقتبس فيها رئيس أميركي من كبير لبناني عبارة ذات مدلول شامل وعالمي. فـ«لا غالب ولا مغلوب» ابتكرها الرئيس صائب سلام بعد انتهاء حوادث العام 1958 في مستهل عهد الرئيس فؤاد شهاب وأصبحت مذ ذاك مثلاً في حكومات متوازنة تنبثق من موازين قوى متكافئة في نزاع وطني.
قبل الرئيس أوباما، استعمل الرئيس جون كينيدي في حفل تولّيه الرئاسة الأميركية في كانون الثاني 1961 عبارة «لا تسألوا ما يستطيع بلدكم أن يعطيكم، اسألوا ماذا في إمكانكم أن تعطوه». عبارة كتبها الفيلسوف اللبناني جبران خليل جبران قبل قرابة قرن.
المهم اليوم ما قاله الرئيس أوباما في مقابلته مع فريدمان، وماذا يعني باستعماله عبارة «لا غالب ولا مغلوب». المقصود من كلامه العراق.
منذ ظهور داعش والدولة الإسلامية، اشترطت واشنطن وغيرها من البلدان المعنية بالعراق لمساعدته أن تكون هناك حكومة ائتلافية تشعر من خلالها كل مكوّنات العراق بأنها معنية، ولها رأيها في صناعة القرار والوطن وتقدّمه. نتيجة للضغوط الخارجية والداخلية استُبدل رئيس الحكومة نوري المالكي بتكليف نائب من حزبه، وقبلت المكوّنات العراقية العمل معه من أجل استعادة وحدة العراق وازدهاره. جاء تأييد تكليف حيدر العبادي تشكيل الحكومة أيضاً من كل الدول المعنية بالعراق كالولايات المتحدة وإيران والسعودية.
لذلك، يستدعي إنهاء الدولة الإسلامية وإعادة توحيد العراق دعم المكوّنات العراقية كافة، وخاصة تلك التي احتلت داعش أرضها. فسكان منطقة مدينة الموصل ذات الأكثرية السنية مدعوون إلى أن يقودوا حملة تحرير الأرض وإعادة بناء المؤسسات التي وحدها تضمن التعددية الموجودة تاريخياً في الموصل وجوارها. لا يمكن أن تعود الموصل إلى ذاتها وإلى التعاطي مع التقدم الدولي من دون عودة مسيحييها ويزيدييها والتركمان الذين تركوها، إلى الشيعة الذين كانوا يسكنونها.
وقد تطلب هذه المناطق بعد التحرير إعطاءها الحق في إقامة إدارة محلية على غرار المنطقة الكردية، وعلى الحكومة الفيدرالية الموافقة، لأن أنظمة الفيدرالية واللامركزية توحّد الوطن ولا تقسّمه في حال سيادة العدالة والمساواة أعمال الحكومة الفيدرالية. سكت أهل منطقة الموصل عن احتلال داعش بسبب الإجحاف الذي لحق بهم خلال عشر سنوات من حكومات المالكي.
من هنا فإن الحكم التوافقي هو المطلوب في البلدان التعددية. لا يمكن في القرن الحادي والعشرين أن تبتلع أكثرية ما حقوق الأقليات. إن الأنظمة السلطوية ساوت إلى حد بعيد، بين المواطنين. لكن بعد انهيار الأنظمة تلك مع بداية هذا العقد، برزت إشارات الإجحاف لدى مكوّنات الوطن غير المنتمية إلى الطبقة الحاكمة. وبينما استبشر البعض مع بدء الانتفاضات العربية بمستقبل تعمّ فيه المساواة والقبول بالآخر المختلف، ظهرت جماعات كثيرة في الأوطان العربية تعمل لإلغاء الآخر وفرض أنظمة تعيد عالمنا العربي إلى قرون التخلّف.
من هذا المنطلق يطلب من النظام السوري، وهو يستعيد السيطرة على غرب البلاد وجنوبها، التخلي عن الإيديولوجية البعثية التي سعت إلى إلغاء التعددية السياسية، ومن ثم الاعتراف بأن التنوّع هو غنى للوطن. لا يمكن أن ترتاح سوريا من دون نظام جديد يساوي بين الجميع بالحرية والكرامة، وأن تقتنع كل المكوّنات السورية بأنها تساهم من خلال النظام الجديد في صناعة القرار وبناء الوطن.
يقودنا هذا الطرح إلى لبنان. فالحكومة الحالية التي شُكّلت على أساس «لا غالب ولا مغلوب» توافقية بامتياز، خاصة أن لكل وزير حق الفيتو على قراراتها. إن اتفاقاً كهذا يعوّض ـ وإن مؤقتاً ـ شغور مركز رئاسة الجمهورية، وربما يقود ذلك لبنان إلى إرساء التوافقية على الشكل السويسري حيث يصير للبنان مجلس رئاسي يتخذ قراراته بالإجماع ويتناوب أعضاؤه سنوياً، فتشعر مكوّنات الوطن بأجمعها بأنها حقيقة تتمثل في آلية أخذ القرار وتساهم في بناء الوطن.
البديل من النظام التوافقي المتمثل بالحكومة الحالية، أن يكون للبنان نظام انتخابات حديث يحقق الميثاقية الطائفية والوطنية ويسمح بالتنافس الصحي، بالإضافة إلى الاتفاق على آلية جديدة لانتخاب رئيس الجمهورية لا تسمح بالشغور الذي يتكرّر منذ أن استعاد لبنان ذاته بعد انتهاء عهد الوصاية السورية.