لا أصدق!؟
لا أصدق أو أكاد، أن أحوال البلاد تسوء يوما بعد يوم إلى حدود الهوة السحيقة التي وصلنا إليها… وإلى حد أن يتم تجاوز الخطوط الحمر، الممزوجة بخيوط العقل والمنطق والحكمة، لنستفيق في بدايات هذا الأسبوع على تلك الأخبار الملعونة المذمومة والمرذولة والتي تحكي عن عمليات خطف وخطف متبادل، بالمفرق تارة وبالجملة تارات، حصلت ما بين اللبنانيين أنفسهم، بل وبالتحديد… ما بين سنة وشيعة منهم، في بعض المناطق الحساسة من لبنان. الأمر الذي يرشحها للإنتقال إلى أمكنة أخرى لا تقل عنها خطورة وحساسية. وبالرغم من الإفراج الذي تم بالأمس عن المخطوف «صوان» كائنا ما كانت الدوافع والأسباب، والخفايا والخبايا التي تحوم من حول هذا الحدث المثير والخطير، لا يسعنا إلاّ القول، وبكل بساطة وكل عفوية: «يا عيب الشوم» على كلّ من فكّر وخطّط ونفّذ مثل هذا التصرف الإجرامي المشبوه، ولئن كان البادئ به أظلم، فإن ذلك لا يعفي المستثارين، ولا يؤمن لردود الفعل الحاصلة، أي جزء من تغطية وتبرير، ولا يسعنا هنا إلاّ أن نستعير من السيد المسيح قوله في من أعملوا به لغة العنف والإيذاء، إغفر لهم يا أبتاه، فانهم لا يعلمون ماذا يفعلون، وبلغة أخرى مشبعة بالحقائق الخفية وأعمال التحري والتخطيط المشبوه والغايات الإجرامية، يمكن القول : لا غفران لهؤلاء، فإنهم يعلمون ماذا يفعلون،ومثل فعلهم يحتاج الى ملاحقة وإلقــاء قبض وإيقاع العقاب الرادع، نظرا لفداحة هذا النوع من الجرائم الذي استجد على مجرى الأحداث في هذا الوطن المنكوب.
لقد مرت على هذه البلاد، أحداث جسام، تقاتل فيها كثيرون على هذه الأرض اللبنانية السليمة المسالمة، فملأؤها بسيل من الدماء والخراب والدمار حتى لكادت أن تزول، وجرّوا وراءهـم أعدادا من اللبنانيين الذين جاروهم آنذاك في لغة ليست لغتهم وفي تصرفات ليست لهم ولا منهم، وذهب لهم في صلب هذه الحروب التي طاولت لبنان واللبنانيين على مدى يناهز الخمسة عشر عاما، عشرات الألوف من الشهداء والقتلى، فضلا عن كميات هائلة من الخراب والتخريب المتمادي والدمار والتدمير المستمر. بعد المستجدات الإيجابية نسبيا والتي داخلت البلاد قطرة قطرة، وقطعة قطعة، وعلى مدى سنوات عديدة لطفت الجراح وخففت في الذاكرة وقع الذكريات الأليمة، ظننا أن اللبنانيين قد استفاقوا من غفواتهم ومن حالات الكوما الذهنية والإدراكية التي طاولت عقولهم وعواطفهم على مدى تلك السنوات التي أدت الى ترميم فكرهم ومزاجهم وبعض زوايا الوطنية في عقولهم وقلوبهم، وأن حالهم قد تبدلت وتحولت، ومن خلال المساعي المحلية والخارجية التي استمرت بضع سنوات وصب نتاجها في الطائف بمؤتمره وجهوده ومقرراته، وبالمواكبة الاقليمية والدولية التي رافقته، وبالتجاوب اللبناني المتعب والمنهك بأهوال الحروب المختلفة الأشكال والأنواع التي طاولته، وأمسك لبنان بنتيجتها بزمام سلطته وإدارته وسياسته بشكل معقول ومقبول على مدى بضع سنوات لم تلبث الظروف الإيجابية التي واكبتها وطاولتها الأنواء المتسارعة والمتراكمة، واستجدت لها أحوال أدخلت لبنان مجددا ويا للأسف والخوف والجزع، في أتون المستجدات الإقليمية والدوليـة، فوجد لبنان نفسه وقد عاد إلى صميم أجوائها وأنوائها ومخاطرها، فعلى الصعيد الإقليمي… برزت قوى جديدة ما لبثت أن أفرزت لها طموحاتها ومصالحها، جملة من الروافد والملحقات… وهكذا أقبلت إيران بطاقاتها الإيديولوجية المتوثبة والمتمثلة بالنتاجات الفكرية والمذهبية والعقائدية المرتبطة بولاية الفقيه، وبجنوحها إلى تنظيم الروافد التي اختلقتها من خلال حرسها الثوري وملحقاته في داخلها وفي خارجها، كما أقبلت إلى المنطقة، بأحلامها التاريخية وطموحاتها وأطماعها الحالية، وتصميمها على إعادة تكوين ما أمكنها من بقايا الإمبراطورية الفارسية الآفلة، وكان نصيب لبنان من كل ذلك، ما تلاقيه ساحتنا الوطنية والإسلامية من شروخ عمودية كبيرة تنخر في هيكله العظمي وأعمدته الأساسية والتأسيسية من خلال إيديولوجيات مستجدة عل الساحة اللبنانية مختلطة إلى حد التماهي المطلق، مع طموحات إيرانية لا تحد، وصولا في ذلك إلى طرح تأثيرها وتفجيرها في كل مكان لها فيه « بيئة حاضنة « وصولا بها في ذلك إلى شواطئ البحر المتوسط.
وواكب ذلك خلافات عميقة الجذور نشأت وتأصلت على الساحة المسيحية، وأكثر ما يصدمنا منها ويصادم الوجود الوطني نفسه، وضعية رئاسة الجمهورية التي ما زالت تهز بالبلاد أسسا وأعمدة، وإلى درجة تكاد أن تودي بها وبالوطن بكل مؤسساته وميثاقياته ووحدة أرضه وشعبه.
وعلى الصعيد الدولي، تبدلت الأحوال بشكل معاكس تماما لما كانت عليه، فتكاسلت الدول الغربية، وفي طليعتها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا في التمسك بما كان لها من حول وصول في المنطقة العربية عموما وفي لبنان خصوصا، ووصل كسلها تدريجيا إلى حال من اللامبالاة والتخلي، والتعامــل مع دولها بلغة المصالح المحضة التي اتخذت لها أولويات مستجدة ومختلفة، وما كان يستحضر الاهتمام الغربي إلى لبنان بأدنى وأصغر دواعيه ومسبباته، تحول إلى إنكفاء شبه كامل لا تحركه أية قضية ومنها على سبيل المثال، قضية حماية المسيحيين في المنطقة وفي لبنان، وباتت معالجتها بلغة الغرب وتحولاته ومصالحه تتمثل أكثر ما تتمثل في دعوة هؤلاء إلى الهجرة إلى دول الغرب ودعوة الدول الغربية إلى استقبالهم واستيعابهم في زواياها وخباياها!
وعودة على بدء،
لا أصدق… أن أحداثا مثل أحداث بدايات هذا الأسبوع يمكن أن تتجسد على هذا الشكل الهستيري في أوساطنا الإسلامية.
كما لا أصدق، واستغرب أحداثا كتلك التي بدأ ت تعود إلى لغة التسلح وتحقيق الأمن الذاتي، التي يطلقها البعض، مع طبول وأجراس تدق ليل نهار، خاصة من خلال وسائل الإعلام المختلفة المعروفة بتوجهاتها ومراميها والتي تنطلق من تخوف ربما يكون مفهومـا ومتوقعـا لولا أنه يحوّل مصبه السلبي والتحريضي في أغلبية الأحيان إلى ما يسميه بالبيئة السنية الحاضنة، لنكتشف سريعا أنه لا يقصد بذلك تلك الحفنة القليلة من الإسلاميين الغارقين في قوقعة التطرف والإجرام، بل يعني بذلك كما يوحي ويصرح من خلال بعض مسؤوليه وبعض إعلامييه، وبعض من يستصرحهم في إعلامه، أن تلك البيئة الحاضنة هي الطائفة السنية عموما! دون أن تستدركه الحقيقة والتبصـر، إلى أن ما يمسك بالأوضاع العامة من الوقـوع في المحظـور الأوسع والأخطر، هو الإعتدال السني وتوجهاته الوطنية الحقيقية التي يستند فيها إلى الدين الإسلامي الحنيف بكل سماحته وإنسانيته، ونزعته الدائمة نحو الإعتدال، وقد أثبت هذا المجتمع الإسلامي ما لديه من وعي وحكمة والتي لولاهما لكانت الأحداث اللبنانية قد تطورت إلى أوجه أخرى، مختلفة تماما في أوجه أشكالها ونتائجها وآثارها.
لا أصدق… ولكنها الحقيقة المؤسفة. البلاد تنحدر وتنهار، ما كان منها من حـدود وسدود وروادع وموانع… وهي تواجه اليوم عواصف هوجاء، منطلقة على هواها، وعلى هوى الفؤوس والمجرمين من قطاع الطرق والرؤوس، وعلى هوى أصحاب الأطماع والطموحات المشبوهة.