IMLebanon

لبابا يوحنا بولس الثاني وعلاقته بالمسلمين

ا

 

الحديث عن البابا القديس يوحنا بولس الثاني، كمن يغرف من بحر. مهما غرفت منه يبقى الكثير.. يبقى ما هو فوق الاستيعاب. وحتى إذا حصرت حديثي عن علاقته بالمسلمين، فان ذلك يتطلب مجالات واسعة وهذا ليس توقيته. ولذلك سوف اكتفي بمجرد الاشارة الى عناوين هذه العلاقة.

بعد صدور مقررات المجمع الفاتيكاني الثاني كان البابا يوحنا بولس الثاني بعد البابا بولس السادس أول من يخاطب المسلمين بالأخوة. ردّدها مراراً في الفيليبين وفي المغرب. ولما قرأ دهشة في وجوه بعض الحاضرين، قال:» أنا أعرف ماذا أقول».

كان أول بابا يوقّع رسالة المعايدة للمسلمين بمناسبة عيد الفطر وعيد الأضحى. (البابا بنديكتوس السادس عشر لم يوقّعها، وقّعها نيابة عنه الكاردينال توران). وهذا العام أحيا البابا فرنسيس تقليد البابا يوحنا بولس الثاني ووقّع بنفسه رسالة المعايدة.

كان أول بابا يدعو قادة دينيين مسلمين الى مؤتمر عام للأديان برعايته في أسيزي 1986. وكانت المشاركة الاسلامية في المؤتمر الخطوة العملية الأولى في مسيرة حوار اسلامي مع الفاتيكان لا تزال مستمرة حتى اليوم.

كان أول بابا يوافق على بناء مسجد ومركز اسلامي في روما. ذلك أن بلدية روما ما كانت لتوافق على طلب سفراء الدول الاسلامية في ايطاليا بناء المسجد من دون العودة الى البابا، ومن دون الحصول على موافقته. وقد أرفق موافقته بدعوة بلدية روما الى التبرع بالأرض لإقامة المشروع الاسلامي عليها.

كان أول بابا يصلي في مسجد (المسجد الأموي بدمشق) أمام ضريح يوحنا المعمدان أو النبي يحيى كما يسميه المسلمون.

كان أول بابا يدعو مسلمين الى سينودس، سينودس لبنان 1995. والسينودس هو تنظيم استحدثه البابا بولس السادس بعد المجمع الثاني مباشرة لعمل مجلس الأساقفة. وكان إصراره على أن يكون المسلمون (سنة وشيعة ودروز) مشاركين وليس مجرد مراقبين. حتى أنهم توزعوا على لجان العمل التي انبثقت عن المجلس العام للسينودس.

كان أول بابا يقرر عدم تقديم مشروب النبيذ على مائدته احتراماً لمشاعر المسلمين. وقد حدث ذلك اثناء مأدبة عشاء مصغرة أقامها في دارته في الفاتيكان تكريماً للوفد الاسلامي المشارك في السينودس. يومها قدم لنا الماء وعصير البرتقال.

كان أول بابا يدعو المسيحيين الشرقيين الى مشاركة المسلمين في صوم يوم من أيام شهر رمضان. علماً بأن الصيام لدى المسلمين هو ركن من أركان الاسلام الخمسة. وكان الهدف من دعوته، التأكيد على الحياة المشتركة وعلى الإيمان المشترك بالله الواحد. ولقد شجعت مبادرته المؤسسات التربوية والدينية المسيحية في لبنان وفي العديد من الدول العربية الأخرى تتنظيم ولائم افطار خلال شهر رمضان يتشارك فيها المسلمون والمسيحيون الطعام الواحد وفي وقت واحد.

كان أول بابا يدعو مسلمين للصلاة من أجل نجاح السينودس. حدث ذلك اثناء انعقاد السينودس حول لبنان. فقد طلبتُ في رسالة وجهتها الى أمين عام السينودس الكاردينال «سكوت» الاستئذان بمغادرة احدى الجلسات يوم الجمعة لاداء الصلاة (مع زميليْ سعود المولى وعباس الحلبي). فحوّل الكاردينال الرسالة الى البابا. وبعد أن قرأها همس في أذن الكاردينال. بعدها تحدث الكاردينال «سكوت» معلناً عن مضمون الرسالة ليضيف: «ان قداسة البابا يتمنى على أخوتنا المسلمين الصلاة من أجل نجاح السينودس».

وهنا تجدر ملاحظة الأمور الرمزية الآتية:

[ ان البابا نفسه هو الذي اتخذ المبادرة.

[ ان المبادرة أُعلنت في حرم الفاتيكان ذاته.

[ ان المبادرة اتُخذت أمام مجمع الأساقفة.

وأذكر انني عندما توجهت للصلاة في مسجد روما أبلغت الإمام، وكان مصرياً، بالأمر، فضمن خطبته يوم الجمعة الاشادة بالبابا وبمبادرته نحو لبنان وبموقفه من المسلمين. وكانت تلك المرة الأولى التي يشاد فيها بالبابا من على منبر المسجد.

بعد جريمة 11 أيلول 2001، تجاوزت تهمة الارهاب المجرمين الذين ارتكبوا الجريمة النكراء واصبحت التهمة توجَّه الى الاسلام كدين. وجرى تصوير الاسلام في الاعلام على انه، ومن خلال تعاليمه، يشكل مصدراً للارهاب. وسط هذا الجو التشهيري الضاغط، أوعز البابا الى مجلس الحوار بين الأديان الدعوة الى لقاء اسلامي مسيحي على مستوى عال عقد في الفاتيكان. وكانت نتيجة اللقاء الإعلان عن المبدأ التالي: «لا يوجد دين ارهابي، ولكن يوجد ارهابيون في كل دين».

بعد الاجتياح الأميركي للعراق في عام 2003. وصف الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الاجتياح بأنه حملة صليبية جديدة. لم تمرّ سوى أيام قليلة على ذلك، حتى أعلن البابا يوحنا بولس الثاني: «أن الحرب على العراق ليست حرباً دينية، وهي غير أخلاقية وغير مبررة». فقطع بهذا الموقف الأخلاقي السامي، الطريق أمام سوء توظيف تصريح الرئيس الأميركي.. والذي اضطر الى الامتناع عن تكراره فيما بعد.

كان آخر لقاء لي مع البابا يوحنا بولس الثاني في الفاتيكان بعد حفل عشاء أقامه لمجموعة مختارة من الشخصيات التي لبّت دعوته الى مؤتمر عقد بدعوة منه. يومها انتقلنا معه بالقطار من الفاتيكان الى أسيزي حيث عقد المؤتمر. بعد العشاء الذي أقامه في الفاتيكان، كان قداسته متعباً، وقد أنهكه المرض. الا أنه أصرّ على أن يسلم على كل فرد من المدعووين. كان جالساً على كرسيه لا يقوى على رفع راسه. وكان يقف الى جانبه المونسينيور مايكل فيتزجيرالد رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان في ذلك الوقت (جاء بعده الكاردينال توران) وكان فيتزجيرالد يبلغ البابا باسم كل شخصية يصافحها.. ولما وصل دوري وذكر له اسمي.. رفع البابا عينيه نحوي وقال لفيتزجيرالد: «مايكل، أنت تريد أن تعرّفني على محمد السماك؟ إنه صديقنا «. وكان هذا اللقاء الأخير..

ماذا يعني للمسلمين أن تعلن الكنيسة قديساً هذه لمحات عابرة عن علاقته بالإسلام؟ صحيح ان القداسة شأن مسيحي خاص، ولكن أقل ما يمكن التعبير عنه عربياً وفاءً له هو احترام حقوق مسيحيي الشرق الدينية والوطنية. ليس فقط استجابة لمساعي البابا القديس، وليس فقط استجابة لحقوقهم كمواطنين، ولكن إضافة الى هذا وذاك، التزاماً بما يقول به الاسلام نفسه. وما يقول به الاسلام يتناقض مع ما تعرض وما يتعرض له مسيحيو الشرق من عذابات تؤلم البابا الراحل كما تؤلم كل واحد منا. بل وتسيء الى كل واحد منا. وأقل ما يمكن التعبير عنه لبنانياً من وفاء له هو الارتقاء بالسلوك اللبناني الى مستوى الرسالة التي وصفه بها. وهو المستوى الذي، ومع الأسف الشديد، لا يزال يستعصي على كثير من المشتغلين في السياسة الارتقاء اليه. فهل تنفع القداسة حيث لم تكفِ البابوية وحدها في تحقيق معجزة هذا الارتقاء؟.. سيما وأننا على قاب قوسين أو أدنى من انتخاب الرئيس المسيحي الوحيد من شرق آسيا حتى غرب افريقيا؟.. نأمل ذلك.