IMLebanon

لبنان بين منع الفراغ.. ورفض الفراغ..

بدأت في 25 آذار المهلة الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية وبدأت معها حيويّات متنوّعة روحية وسياسية وشبابية وحزبية لتحديد مواصفات الإستحقاق والرئيس.. وكانت الجلسة الأولى لانتخاب رئيس الجمهورية في بداية المهلة الدستورية والتي بلورت طبيعة الإنقسام السياسي في البلاد.. ذهب الإستحقاق الرئاسي في كلّ اتّجاه.. الدولي والإقليمي والعربي.. وبدأت التّحاليل والمعلومات والمواقف والتّناقضات تزداد يوماً بعد يوم.. وبدأت معها عبقرية العجز وصناعة الفراغ..

تعاملنا جميعاً بشيء من الحذر والرّيبة من تحرّكات أبناء النّظام البالي والفاسد والوقح والذي أنتج حروباً وويلات دون أن ترفّ له جفن لا في القتل ولا في التّهجير أو الدّمار.. كانت الزّعامات تعمل جاهدة بالذّهاب بالبلاد إلى الوراء إلى زمن الأُسَر الحاكمة وأصحاب الإمتيازات الطائفية والمناطقية.. وتعمل على منع الإنصهار اللبناني في تجربة وطنية جديدة يتداخل فيها كلّ العناصر من أجل بناء إرادة وطنية حقيقية تتحمّل أعباء النهوض بالبلاد..

تذكّرتُ كثيراً في الأسابيع الماضية الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي دفع ثمن انتقال لبنان من حال الدّمار والإنقسام إلى الوحدة والتّقدّم والإزدهار.. وتساءلت لماذا اغتيل رفيق الحريري ! ولماذا يُغتال لبنان الآن؟!.. وهل أصبح القتل والإغتيال المعنوي والسياسي والشخصي ثقافة وطنية بامتياز.. يتباهى صانعوه بأنّه جزءٌ أصيلٌ من تاريخ لبنان؟.. وتساءلت أيضاً كيف ستتعايش الأجيال القادمة مع هذا الإرث البغيض والذي لا زال يتحكّم بمصير لبنان.. ويمنع الإنصهار الوطني بدولة تليق بمواطنيه والمتفوّقين في كلّ مجال.. وإلى متى سيبقى أمراء الطوائف هم أنفسهم أمراء الحرب والسلام.. والإستهانة بأحلام اللبنانيات واللبنانيين.. والإستخفاف بإرادتهم وأحلامهم وطموحاتهم.. وكأنّ هؤلاء الشّابات والشّباب إرثاً لآباء وأبناء أمراء الحرب والسلام وعدم قيامة لبنان ؟..

تابعنا فنون التّعطيل ونسف الجسور ومنع الوصول لهذا أو ذاك وبدون إستثناء.. لقد أظهرتْ الطبقة السياسية مهارات عظيمة تقوم على التّعطيل.. ثقافة وأداء.. ولقد نجحت كلّ فئة بمنع الأخرى.. ولقد نجحوا جميعاً في تعطيل البلاد..

إصطدمتْ إرادة بعض اللبنانيين بإعطاء فرصة حقيقية للمكوّن الوطني المسيحي في اختيار رئيس يمثّلهم في الشّراكة الوطنية بمواقف علنية وضمنية من مكوّنات وطنية أخرى لا تعترف للمكوّن الوطني المسيحي في هذا الحقّ بالإختيار.. وأيضاً فشل المسيحيون بالإستفادة من هذه اللحظة الوطنية الفارقة.. واكتشفنا أنّ ما كان قبل عقود لا يزال يتحكّم في الحياة السياسية الرّاهنة.. وأنّ الأحقاد والخلافات هي الثروة الوطنية التي يحافظ عليها هؤلاء.. وإنّ سرّ قوّتهم وتكوّنهم يقوم على كراهية الآخرين وليس هناك من يتنافس من أجل الأفضل للبنان..

إستُهدِف الرئيس سعد الحريري مباشرة لأنّه أراد أن يعمّق إرادة الخلاص الوطني التي تمثّلت بتشكيل الحكومة والتي يتنعّم فيها كلّ اللبنانيين وبدون إستثناء.. وهذا الإستهداف يذكّرنا بأسباب اغتيال الرئيس رفيق الحريري وكلّ الإغتيالات.. وأنّ الإنقسامات والإنفعالات والأحقاد واحتقار الناس هي مواصفات الزّعامات اللبنانية بامتياز..

ذهب الجميع إلى الدول القريبة والبعيدة.. ونشط السّفراء.. وتسرّبت المعلومات.. وبدأت حرب الإتّهامات.. وسعى الجميع إلى تعطيل الجميع.. وأقنعنا العالم بالعطالة والفراغ تحت مسمّيات وطنية وهمية لا تحقّق سوى بعض نزاعات التّفوّق لدى بعض الزّعامات والأحزاب.. وأنّ القوة تكون بمنع الإنصهار الوطني ولو أدّى ذلك إلى ضياع فكرة الخلاص الوطني وحكومتها..

يواجه لبنان الآن ثقافة إدارة الأزمات التي نشأ عليها كلّ سياسيي لبنان أيام الوصاية والإحتلال والإستتباع.. ويعتقدون بأنّها سياسة الأذكياء القادرين على إنتاج الأزمات وإدارتها ولو كان ثمنها قتل الأبرياء وتهجير الآمنين وحرق البلاد كما فعلوا مرات ومرات..

الساعة الثانية عشرة من منتصف هذا الليل سيتقرر مصير الطبقة السياسية اللبنانية.. إنّها ساعات حرجة على 128 نائباً في البرلمان.. مكلّفون من الشعب اللبناني.. وهو مصدر السّلطات بالتّشريع والرّقابة وتأمين الإستقرار للدّولة ومؤسّساتها وإداراتها وانتظامها واستحقاقاتها.. والشّعب اللبناني يدفع غالياً أكلاف وصولهم إلى تحت قبة البرلمان في نظام جمهوري برلماني ديمقراطي.. والشّعب اللبناني منحهم التّفويض والبدلات المعنوية والمادية مدى الحياة لهم ولأولادهم..

معظم اللبنانيين تجاوزوا اليوم السبت منذ الخميس الماضي.. وأعلنوا نتائج الإمتحان.. وهي فشل النواب وانتقالنا إلى الفراغ.. وذهب البعض منذ أيام إلى تجمّعات يوم الأحد مساءً رفضاً للفراغ أو الشّغور.. وهذه ثقافة لبنانية أصيلة أكتسبناها أيام الحرب الطويلة.. فنحن مثلاً عندما نسمع عن أحداث أمنية قادمة نذهب بسعادة إلى السوبر ماركت نؤمّن المؤن ونتفقّد مولّدات الكهرباء .. ونستعدّ للأسوأ لأنّنا تعودنا أنه يأتي دائماً.. وهذا ما حدث في الأيام الماضية إعلامياً وسياسياً وبرلمانياً.. إذ تبدو الأجواء بأنّها مسرحية هزلية تعكس العجز والفشل وعدم الحيلة وإلقاء التهم وادّعاء الحكمة أو الحنكة أو الشّطارة وغيرها من توزيع أدوار ومهارات جميلة ولكن في غير وقتها لأنّ الوقت داهم وفشل البرلمان المجدّد لنفسه سيكون بمثابة إنتحار للنّظام البرلماني..

الساعات القادمة هي ساعات فاصلة والعقلاء يرفضون الفراغ ويجب العمل على منعه وتلافيه.. حرصاً على الإستقرار الحكومي والأمني والإداري.. ويجب أن نشتري خلاصنا لا أن نعرضه للبيع ومعه العهد الجديد من حياتنا السياسية الممثّلة بالإستحقاق الرئاسي بما هو تجديد للحياة السياسية.. لأنّ لبنان كان ولا يزال عهوداً رئاسية.. لماذا لا ننتخب الآن وقبل منتصف الليل طالما أنّنا سننتخب بعد أيام أو أسابيع أو أشهر.. لماذا نعرّض هيبتنا وبرلماننا وطوائفنا وإراداتنا وشخصيّاتنا الوطنية للمهانة والإستتباع ؟.. لماذا نعتبر دائماً بأنّ إرادتنا الوطنية هشة وتحتاج كلّ ستة أعوام لمقويات إقليمية ودولية ومؤازرة وكراسي نقالة لقيامنا بواجبنا؟.. وهو الإنتخاب.. كيف يطيق النواب المنتخبون بأن يفشلوا بالإنتخاب؟..

أعرف انّني قد أنتظر وحدي السّاعات القادمة وأراهن فيها على الإرادة الوطنية التي جاءت بالحكومة ومنعت الإنهيار العام في البلاد.. وهذا ما يجعلني أعتقد بأنّ هؤلاء قادرون على منع الشّغور وعدم التّسبب بالإحباط لدى شريحة شبابية وطنية من كلّ الطّوائف والمناطق.. تحاول أن تبني الثقة بدولتها ووطنها.. وأن تساهم في نهضته وتقدّمه.. وهي موجودة لدى أحزاب البرلمان وتياراته.. وأيضاً عدم التّسبب بالإحباط الوطني المسيحي والذي حمل صليبه على طريق جلجلة الخلاص الوطني منذ اغتيال رينيه معوض حتى الآن..

علينا أن نسمّي الأشياء بأسمائها لأنّ ما نتحدث عنه ليس شخصاً بل وطناً نحب العيش على ترابه.. ولا نملك إلاّ هويته.. هنا ولدنا.. وهنا نريد أن نموت.. ونعرف ونعترف بأنّنا نجونا من القتل مرات ومرات.. وبأسلحة مختلفة من الطيران والنبالم إلى رصاص الإبتهاج.. ورغم كلّ ذلك فنحن نحب وطننا لبنان.. ونعرف أنّه صغير ومتداخل.. ومتحاشر ومدّعي في كثير من الأحيان..

سأبقى حتى منتصف هذا الليل من يوم السبت 24 أيار وأراهن على تحرير الإرادة الوطنية التي تمنع الفراغ.. تمديداً أو إنتخاباً.. قبل أن نلتحق غداً بمن يرفضون الفراغ..