شهد لبنان أمس يوماً أمنياً بامتياز، وذلك للمرة الأولى بعد تأليف حكومة الرئيس تمام سلام التي ولّد تأليفها استقراراً ملحوظاً، من توقّف التفجيرات الإرهابية إلى فك الاشتباك في طرابلس، وما بينهما وضع خطة أمنية عكست ارتياحاً لدى المواطنين، ودفعت سلام إلى تنظيم جولات خارجية خليجية لدعوة الأشقاء العرب إلى الاستثمار في لبنان والاصطياف مجدداً في ربوعه. وعلى رغم التعثّر الذي أصاب الانتخابات الرئاسية، وغياب الاتفاق الحكومي على الآلية التي يفترض اتباعها في ظل الشغور الرئاسي، وتعطّل المجلس النيابي بفعل رفض التشريع لدى كتل نيابية وازنة في ظل الفراغ نفسه، وعدم الاتفاق على بَت سلسلة الرتب والرواتب، إلّا أن كل هذه العوامل من الفوضى السياسية لم تعكس أي انطباع بأنّ البلاد ستنزلق مجدداً إلى الخطر الأمني، باستثناء الحدث العراقي الذي أعاد تجديد المخاوف مع ارتفاع منسوب التعبئة والتشنّج والتطرف والمواجهة.
إستفاق اللبنانيون، أمس، منذ الصباح الباكر على انتشار معلومات أمنية عن تفجيرات محتملة وتحذيرات بالجملة بدأت مع طلب وزارة الداخلية والبلديات من منظّمي «المؤتمر الاختياري الوطني الاول»، الذي تقيمه «حركة أمل» برعاية رئيس مجلس النواب نبيه بري في قصر الاونيسكو، تأجيله الى موعد لاحق، وتواصلت مع الأخبار المتتالية عن عمليات دهم في منطقة الحمرا، واستتبعت بالتفجير الإرهابي في ضهر البيدر وإقفال طرقات والحديث عن توقيف شبكات عدة، وقد ولّدت هذه الأجواء الذعر لدى المواطنين، خصوصاً أنّ تعميم المعلومات بهذا الشكل العشوائي أظهر وكأنّ الأمور خرجت من تحت السيطرة قبل أن يشير وزير الداخلية والبلديات مساء إلى أنّ ما حصل «يدلّ على متانة الخطة الأمنيّة ويقظة القوى الأمنيّة»، ويؤكد قائد الجيش العماد جان قهوجي أنّ «الوضع الأمني مَمسوك»، ويكشف أنّ «هناك تضخيماً لأحداث الأمس» في موقف يعكس رأي شريحة واسعة من اللبنانيين ويفتح باب الاجتهاد والتساؤلات على مصراعيه:
كيف يمكن ترميم صورة لبنان في الخارج بعد هذا الانكشاف الأمني الخطير؟ وهل تعميم هذه الأجواء هو نتيجة الارتباك الذي أصاب المسؤولين، أم بهدف دفع المواطنين إلى اتخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر تخفيفاً للأضرار الممكنة والمحتملة؟ وهل ما حصل هو بداية مخطط أم نهايته؟ وهل تمّ القضاء على عوامل التفجير؟ وهل ستقتصر الإجراءات على الجانب الأمني أم ستدفع التطورات الأخيرة إلى تسريع التوافقات السياسية لإقفال الثغرات الموجودة؟
الوقائع الميدانية
وفي التفاصيل أنّ لبنان شهد فصلاً أمنياً امتد من عمق العاصمة الى مدخل البقاع وصولاً الى الشمال، وأبرز محطاته كان الإنفجار الذي وقع عند جسر النملية في منطقة ضهر البيدر ما بين حاجزي الجيش وقوى الامن الداخلي، بعدما فجّر انتحاري نفسه بالحاجز الأمني الذي أصرّ على توقيفه بعد رصد سيارة «المورانو» التي كان يقودها في حركة مشبوهة ما بين طريق صوفر وجسر النملية دفعت الى الإبلاغ عنه ورصد حركتها حتى بلوغها الحاجز. وقد أسفر الانفجار عن استشهاد عنصر من قوى الامن الداخلي واصابة سبعة من رفاقه، أحدهم بحال الخطر، و26 مدنياً. ومساء، تبنّى «لواء احرار السنة – بعلبك»، في تغريدة على «التويتر»، التفجير، واعتبر أنّ «الهدف الذي لم يتمكن من الوصول اليه (اليوم) سيتمكن منه لاحقاً».
وفي ظلّ الروايات العديدة التي سارعت وسائل الإعلام الى نسج عدد منها، كشفت مصادر امنية واسعة الإطلاع لـ«الجمهورية» انّ سيارة «المورانو» سبقت موكب المدير العام للأمن العام بسيارتين في نقطة على الطريق الدولي تقع بين صوفر وجسر النملية وتمكّن عناصر الحماية في الموكب من رصدها والإبلاغ عنها قبل دقائق عدة من انفجارها، ما دفع الموكب الى السير ببطء ملحوظ لتبتعد عنه الى ان وقع الانفجار بمسافة تفصل أقلّ بمئتي متر من منطقة سَير الموكب.
وبعد الإنفجار، تلاحقت التصريحات والمواقف المنددة بالإنفجار على كلّ المستويات الرسمية والحزبية. واكّد ابراهيم، في تصريحات له، انه سبق له ان تعرّض لتهديدات في مناسبات عدة قبل حادث الأمس وقبل ان يتوجّه الى البقاع في زيارة تفقدية رفض إلغاءها في ظلّ الهاجس الأمني الذي كان يحيط بحركته. واعتبر أنّ الانفجار هو على الامن اللبناني، وجميع قادة الاجهزة في لبنان مستهدفون لأنّ الامن مستهدف في البلد.
إجتماع أمني
وفي ظل موجة الإستنكار التي رافقت الإستنفار الأمني على مساحة لبنان، والتي انعكست قطعاً للطرق في مناطق عدة من بيروت والشمال، رأس رئيس الحكومة إجتماعاً أمنياً حضره، إضافة الى وزيري الدفاع والداخلية، قادة الأجهزة الأمنية وناقش المجتمعون ما جرى في ضهر البيدر بعد اعمال الدهم في الحمراء والإجراءت التي شهدتها المناطق من بيروت الى الشمال والبقاع والتدابير الإستثنائية التي اتخذت حول ثكنات الجيش.
وطلب سلام من الوزراء المعنيّين ومن قادة القوى ومسؤوليها «الحفاظ على اقصى درجات التأهّب واليقظة ورفع مستوى التنسيق في ما بينهم، والمتابعة الحازمة لعملهم لإفشال مخططات الساعين للعبث بأمن البلاد، ولحماية الدولة ومؤسساتها وسلمها الأهلي». واكد انّ ما جرى يجب أن يشكل حافزاً لجميع القوى السياسية الى التكاتف وبذل الجهود لتفعيل عمل المؤسسات الدستورية»، ودعا «اللبنانيين الى اليقظة، محذراً في الوقت نفسه من الاستسلام للشائعات والتهويل المفتعَل والمخاوف غير المبررة».
وقال احد المشاركين في الإجتماع انّ جزءاً منه خصّص للبحث في التقارير الأمنية التي تقدم بها قادة الأجهزة الأمنية الذين أجمعوا على سيناريوهات تحدثت عنها تقارير أمنية جمعتها الأجهزة اللبنانية وتلاقت في مضمونها وتوقيتها مع مضمون تقارير وبرقيات دولية تلقّتها الأجهزة وتحذّر من عمل تخريبي يمكن ان يستهدف الساحة اللبنانية.
وإن اختلف مضمون بعض التقارير التي تقدّم بها قادة الأجهزة الأمنية حول استهداف شخصية عسكرية او امنية او سياسية فكلها أجمعت على انّ ما يخطط للبلد موضوع في جزء منه تحت مجهر الرصد الأمني والإستخباري الإستباقي منذ فترة، وقد وضعت مناطق ومجموعات محددة في نطاقها.
وقال مرجع امني شارك في اللقاء لـ«الجمهورية» إنه بعد استعراض المواقف والمعلومات تقرّر المضيّ في اتخاذ ما بوشر به من تدابير امنية استثنائية وتعزيز ما يمكن تسميته «الأمن الإستعلامي والإستباقي» لتدارك أخطار ايّ عمليات محتملة في مناطق محددة تتسِم بالحساسية، وذلك عبر التنسيق المحكم بين مختلف الأجهزة الأمنية التي عليها تبادل المعلومات أيّاً كان مصدرها وحجمها لتكون شريكة حقيقية في مواجهة ما يخطط من اعمال إجرامية وإرهابية.
وعن حصيلة العمليات التي جَرت في منطقة الحمراء، قال المرجعلـ «الجمهورية» انّ عدد الموقوفين بات محدوداً للغاية وانهم على لائحة المشتبه بهم وليس هناك ايّ مشبوه قد تمّ توقيفه حتى ساعة متأخرة من ليل أمس.
واوضح انّ عمليات التوقيف تجاوزت الـ 113 شخصاً ولم يبق منهم قيد التحقيق حتى ساعة متأخرة من ليل أمس ما يتجاوز عدد اصابع اليدين. ولفت الى انّ بعض الذين جرى الإستماع اليهم، ومن بينهم بعض السوريين والجزائريين بالإضافة الى سعودي، كانوا يشاركون في مؤتمر في فندق نابوليون ولم يثبت تورّط ايّ منهم في عمليات مشبوهة بعد تفتيش دقيق لأسمائهم ووسائل دخولهم الى لبنان حيث تبيّن انها كانت شرعية وعبر المرافىء الشرعية اللبنانية، باستثناء عدد من السوريّين الذين دخلوا الى لبنان خلسة ولم يثبت تورّط ايّ منهم في ايّ عملية أمنية.
وفي سياق متصل علم أن جهازاً أمنياً غربياً وضع الأجهزة اللبنانية بصورة معلومات لديه عن وجود شخص واحد كان سينفّذ عملية إرهابية أمس.
وكشف مرجع أمني لـ»الجمهورية» أنّ هذه العملية هي الأولى من نوعها التي تمّت بالتنسيق بين الامن العام وفرع المعلومات، حيث أمضى رئيس الفرع العميد عماد عثمان وقته في الإشراف على العملية من غرفة العمليات المركزية للامن العام.
عدوان
وفي المواقف، دعا عضو كتلة «القوات اللبنانية» النائب جورج عدوان اللبنانيين «الى أن يكونوا يداً واحدة في مواجهة الإرهاب الذي ندين ونشجب، أيّاً كان مصدره وأيّاً كانت الجهة التي تقف وراءه». وقال لـ«الجمهورية»: «نعيش في منطقة تشهد مزيداً من التوتّرات واحتدام صراعات ذات الطابع الأصوليالمتطرّف. وبالتالي، فإنّ لبنان يتأثربهذه الظاهرة الخطرة»، معتبراً أنّ «أفضل طريقة لمواجهة الأصوليات هي بالاعتدال لا التطرّف، وذلك عبر التفاف اللبنانيين حول دولة مدنية (دولتنا) تنأى بنفسها عمّا يجري في المنطقة، في حين أن تدخّل البعض في ما يجري يستجلب الصراع القائم في الدول المحيطة بنا».
وأكد عدوان أنّ «للدولة دوراً كبيراً في هذا الاطار، وذلك من خلال انتشار جدي على كامل الحدود وضبطها بالاتجاهين، فضلاً عن اعتماد سياسة النأي بالنفس لحماية بلدنا من خطر الانجرار الى حرب أهلية».
ماروني لـ«الجمهورية»
بدوره، أكد عضو كتلة «الكتائب اللبنانية» النائب ايلي ماروني لـ«الجمهورية» أنّ «انفجار ضهر البيدر رسالة إرهابية جديدة تثبت أنّ الأمن ما يزال هَشاً في لبنان، وأنّ الارهاب أقوى من كل احتياطات الدولة وقادر على الضرب حيث يريد».
اضاف: «الى جانب الأضرار الأمنية والسياسية، فما جرى قضى على الموسم السياحي الذي كان معظم اللبنانيين يأملون منه خيراً في الأسابيع المقبلة»، وما حدث يجب أن يوقظ ضمير المسؤولين، فيبادر جميع النواب، اليوم قبل الغد، الى انتخاب رئيس للجمهورية، لأنّ الفراغ في المؤسسات السياسية ينعكس سلباً على الوضع الأمني، خصوصاً في هذا الوقت العصيب الذي يشهد تدهوراً للأوضاع في سوريا والعراق». وحمّل مسؤولية الخلل الأمني الى «كلّ من يعرقل عملية الانتخاب وبناء المؤسسات». ودعا الأجهزة الأمنية الى «الضرب بيد من حديد وكشف كل هذه الجرائم ومن يقف وراءها».
واعتبر ماروني انّ «إعلان بعبدا والحياد هما الدواء الشافي، ففي كل مرة يزداد تدخّل «حزب الله» بسوريا، تزداد ردات الفعل. ولسنا من يقول ذلك، إنما البيانات الصادرة عن الجهة المسؤولة بعد كل عملية تفجير، تؤكد أنّ ويلات الحرب السورية انتقلت الى لبنان. والأسوأ هو ما نسمعه عن التدخلات في العراق أيضاً، وجميعنا يدرك مستوى الارهاب الموجود في هذا البلد، والذي قد ينعكس أيضاً على لبنان».
سكرية
وشدد عضو كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب الوليد سكرية على وجوب «ان تشعر جميع القيادات بالخطر فتتنازل قليلاً وتوحّد الكلمة لمواجهة الاخطار المقبلة علينا». وقال لـ«الجمهورية»: «عاد الارهاب يضرب لبنان مجدداً لأنه لم يُستأصل منه اصلاً. فهو خلايا ارهابية وجدت على الساحة اللبنانية منذ غزو العراق عام 2003 وربما قبل، ولكن لم تكن البيئة الحاضنة لها كبيرة. إلّا انه بعد تدخّل البعض في الشأن السوري ودعم المعارضة ضد النظام، فيما الدولة دَفنت رأسها في الرمال وتركت الامور سائبة، نَما التطرف في لبنان وازداد عدد الارهابيين باسم قتال النظام السوري وكبرت البيئة الحاضنة لهم».
واعتبر سكرية انّ «داعش» لم تكن تنتظر ذهاب «حزب الله» الى سوريا لتدخل الى لبنان، بل هي دخلت اليه قبلاً، عندما دعم تيار «المستقبل» و14 آذار المعارضة السورية وجعلوا من الشمال وعرسال قواعد لدعم هذا الارهاب، فتنامى الفكر الارهابي في هذه البؤر». واضاف: «كاد لبنان ان يذهب الى الفوضى وأن تشكّل «داعش» إمارتها فيه، لو لم تتألف الحكومة وتطبّق الخطة الأمنية، لأنّ مركز رئاسة الجمهورية شاغر ومجلس النواب مشلول. ومطلوب من الدولة اليوم ان تبني انظمتها السياسية، وعدم تعطيل عمل الحكومة بسبب الخلاف حول من يضع جدول الاعمال ومن يوقّع القرارات والمراسيم. وعلى الحكومة بدورها وضع خطة لمكافحة الارهاب ومواجهته، فدولة «داعش» تنادي بدولة في العراق والشام، هي لا تقول في سوريا، بل في بلاد الشام ولبنان جزء من هذه البلاد».
الساحلي
من جهته، دعا النائب نوار الساحلي الى «الحذر من دون ان نُصاب بالهلع والخوف، فالأمور لم تفلت بعد». وقال لـ«الجمهورية»: «صحيح انّ ما حدث مفجع لكنّ شيئاً ايجابياً حصل في الوقت نفسه. فقبض القوى الامنية على شبكة إرهابية يؤكد انها ليست نائمة ابداً بل انها تسهر على امن المواطن، ويؤكد ايضاً أنّ الخلايا الامنية هي اليوم تحت قبضتها».
وإذ جدد الساحلي القول انّ تدخل «حزب الله» في سوريا خفّف من التفجيرات كثيراً في لبنان، رأى انّ ما يحدث في العراق شجّع بعض الخلايا النائمة من «داعش» واخواتها على القيام بهذه الاعمال. ودعا البعض «الى عدم استغلال ما جرى وربط الامور بعضها ببعض، إذ سمعنا للأسف بعض الاصوات تعتبر انّ ما جرى بسبب تدخّل الحزب في سوريا، لكن العكس هو الصحيح، فلو لم نتدخّل لكان ما حصل في الموصل حصل في لبنان اكثر من مئة مرة. فالارهابيّون لا يميّزون بين سني وشيعي، يحرقون الكنائس ويقطعون الرؤوس، وكلّ من هو ليس معهم هو هدف لهم. قبل ان نتدخل في سوريا وقبل ان نأخذ موقفاً ممّا يجري فيها كانوا يهددوننا بالمجيء الى الضاحية وقتل الامين العام للحزب السيّد حسن نصر الله. لذلك، هذه الحرب يجب ان تكون حرب الجميع، ويجب الّا نسمح لهم بإدخال الفتنة الى لبنان»
الحريري – جنبلاط
وعلى الخط السياسي الذي تراجع مع تقدّم الوضع الأمني، انعقد مساء أمس اللقاء المرتقب بين الرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط في باريس، والذي فرضت الأحداث الأمنية نفسها على جدول الأعمال بينهما، فيما كان الاستحقاق الرئاسي سيشكّل الطبق الرئيس لهذا اللقاء الذي يتوقع أن يولّد دينامية سياسية تضع حداً للجمود السياسي وتفتح الطريق أمام المواجهة الفعلية مع القوى التي تريد هزّ الاستقرار في لبنان
وأشار البيان الصادر عن المكتب الإعلامي للرئيس الحريري بأن اللقاء تم «في حضور الوزير وائل أبو فاعور والسيد نادر الحريري، وتناول آخر المستجدات على الصعيدين المحلي والإقليمي، ثم استكمل البحث إلى مائدة عشاء أقيمت بالمناسبة».