لا يختلف اثنان في لبنان على أنّ تعطيل انتخاب رئيس للجمهوريّة هو أمرٌ خارجيّ، بل إيرانيّ تحديداً، وأن تراخياً دولياً أتاح لإيران أن تتسلط عبر حزب الله على الرئاسات الثلاث في لبنان، في احتلال تنفذّه ترسانة صاروخيّة إنما بمظهرٍ»ناعم» و»مبطّن» وغير معلن حتى الساعة، ولكن؛ وهذه الـ «لكن» تحمل الكثير من مراراتنا كشعب لبناني ، لأنّ ما يحدث يُنفّذ بأداة لبنانيّة مسيحيّة مارونيّة، وهذه ليست المرّة الأولى ولن تكون الأخيرة، فبعضهم أشبه بلعنة حلّت على لبنان لا ترى في الكون سوى مآربها واطماعها الشخصيّة،وإذا كانت التجارب السابقة لم نتعلّم منها في لبنان فإن الآتي سيكون أشبه بكارثة في ظلّ ما تشهده المنطقة من تغيير ديموغرافي وتهجير للمسيحيين العرب،وتطرفٍ وحشيّ صناعته مشبوهة لخدمة معادلة قديمة ـ جديدة «أنا أو الإرهاب»، ولكن على عكس كلّ الذين هددوا قولاً بهذه المعادلة، سمحت خبرة النظام السوري في صناعة الإرهاب بالتنفيذ وتحويل «البعبع» إلى فعلٍ لا قول، فقال لـ «داعش» كوني فكانت، على مرأى ومسمع من العالم ومصالح أميركا وإسرائيل في «إبادة» الشرق الأوسط!!
تسترجع ذاكرتي ذاك المشهد يوم أطل صاحب الغبطة مار نصر الله بطرس صفير على تلك الحشود المسيحيّة العونيّة قبيل انتخابات العام 2005 من على سور ليخاطبها بجملة»سيكون للمسيحيين زعيم»، هي جملة تختصر الوضع الماروني المتأزم، الذي سبق الرئيس الراحل الشيخ بشير الجميّل الجميع إلى فهمه وإلى إدراك أنّ استمراره على هذا الشكل سيودي بالمسيحيين وبالمنطقة المسيحية النظيفة جغرافياً من أي احتلال فلسطيني أو سوري، فحزم أمره وحسم القيادة ووضعها في يده، وهذا الأمر وحده أخرج المنطقة المسيحية حتى العام 1982 من حرب زواريب أين منها التي خاضتها المنظمات الفلسطينية فصائل ما يُسمّى بالحركة الوطنية في شوارع المنطقة الغربية!!
إنّ مقولة أن تعدّد القيادات والرؤوس دليل على الديمقراطية، مردودة على أصحابها، فواقع المنطقة العربيّة كلّها يشير إلى عكس ذلك، وتاريخ لبنان المسيحيي يُشير إلى عكس ذلك بل ويشير إلى صراعات مريرة أنهكت الجسد الماروني منذ تحولت كسروان إلى منفى للخارجين على السلطة في إهدن، والتركيبة المارونية لا تسمح بالرأس الواحد إلا على بحرٍ من الدماء، ففيها بيوتات وعشائرية وعقليات صلبة ترفض القبول بتسليم زمام القيادة لرجل واحد، حتى البطريركيّة المارونيّة نفسها عانت من انقسامات بين مطارنتها منذ قرون، والمشهد ما زال مستمراً، كثيرون من الموارنة قد لا يُحبّون هذا الكلام، ولكن نضع أمامهم مشهد توحيد بشير الجميّل للبدقيّة المسيحيّة وتكلفته، ومشهد العامين 1989 و1990 ومحاولات تكريس مشروع فاشل حمل عنوان «الجيش هو الحلّ»، وهي ضمناً اختصار المؤسسة العسكرية بشخص واحد، والتي قادت إلى تدمير المناطق المسيحيّة، وإلى تقديمها على طبق من ذهب للاحتلال السوري الذي قام لاحقاً بتعطيل الدور المسيحي على مدى خمسة وعشرين عاماً من الاحتلال تحت مسمّى الوصاية، والكلمة للمناسبة ولدت مع جملة الرئيس الراحل الياس الهراوي عندما قال:»نحن اللبنانيين لم نبلغ سنّ الرشد»وأظنّه كان على حقّ!!
وهنا لا بدّ من الاعتراف بأنّ الوجود الماروني باني لبنان، وأنّ الوجود المسيحي هو الحماية الوحيدة للبنان من السقوط في هاوية الاحتلال الأبدي وهو الذي منع استلحاقه بسوريا كمحافظة زائدة، وأمام هذا الاعتراف لا بُد لنا من القول بأن هذه المعادلة بقدر ما هي حقيقيّة وتحمي الكيان اللبناني فإنّ بمقدورها أن تدمّره وتقضي عليه، فهذا التمزّق في نسيج الجسد المسيحي وإصرار واحدٍ على إلغاء الجميع ولو كلّف الأمر إلغاء لبنان كلّه، سيودي ليس بالمسيحيين إلى التهلكة، بل بلبنان كلّه، في لحظة لا يرفّ فيها للعالم جفن أمام أنهار جارفة من الدماء المختلطة من السوري والعراقي والليبي والفلسطيني واللبناني، واختلط في نفس المجرى الدم المسلم والمسيحي والأزيدي وكلّ الأقليّات، ما لم يخرج الموارنة من عنق زجاجة انتخابات رئاسة الجمهورية عليهم وعلى لبنان ـ الرسالة ، وعلى المسلمين فيه أيضاً السلام!!