من الحَسَنات القليلة التي تُذكَر للسياسة اللبنانية، لدى مقارنتها مع الحالات المتعدّدة في الأقطار العربية المجاورة، أنها مكشوفة وواضحة. بل إن اللبنانيين اعتادوا الاقتناع بوجود مؤامرة حتى حيث لا تكون هناك مؤامرة أو من يتآمرون… وكان لافتا في الآونة الأخيرة، بعد زحف «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) على غرب العراق وشماله، واحتلالها الموصل وتهجيرها مسيحييها في أعقاب إعلانها «الخلافة»، تداعيات المشهد على لبنان.
في الأساس، لبنان وجد نفسه بالرغم منه، وقد زُجّ زجّا في خضم الحرب الأهلية السورية التي أرادها نظام بشار الأسد خدمة لمشروعه الصغير التابع لمشروع أكبر وأخطر. وبما أن المشروع الأكبر يقوم على مبدأ الإمرة.. ولا مجال فيه للتردّد والاعتراض – هذا إذا وجد من لديه البصيرة الكفيلة بالتشجيع على التردد والاعتراض – انخرط طرف لبناني أساسي في الحرب السورية. وجاء هذا الانخراط العلني، كما نتذكر جيدا، تحت طيف متغيّر من التبريرات.
كان التبرير الأول «الدفاع عن القرى التي يسكنها لبنانيون» عبر خط الحدود الشمالية والشمالية الشرقية داخل الأراضي السورية في محافظة حمص، ثم بعد إنجاز المهمة، ظهر التبرير الثاني… وكان الدفاع عن «المزارات الشيعية المقدسة»، ومعها اتسع نطاق التدخل، ليشمل بلدات في محافظتي حلب وإدلب، ثم تبلورت هذه الحرب «المقدسة» لتغدو حربا دفاعية استباقية ضرورية من منطلق التصدي للجماعات «التكفيرية» التي تهدّد لبنان (!)… وامتد نطاق العمليات عبر جبال القلمون في ريف دمشق، مؤديا على أرض الواقع إلى محاصرة بلدة عرسال وبعض البلدات القليلة التي يسكنها مسلمون سنّة في منطقة البقاع الشمالي بشمال شرقي لبنان، وهي التي تؤوي عشرات الألوف من اللاجئين السوريين… غالبيتهم العظمى من السنّة.
لبنان، الذي أقرّ دستوره المكتوب التنوّع الديني والطائفي، ما كان ممكنا أن يتوارى خلف عبارات مهذّبة، مثل «النأي بالنفس عن الأزمة السورية» عندما يعرف اللبنانيون أنفسهم أن هذه كلمات جوفاء لا معنى لها ولا يعتدّ بها. فـ«حزب الله» كان يخوض علنا الحرب، ومعه الميليشيات الشيعية العراقية، دعما لنظام سوري طائفي ادعى العلمانية طويلا حتى استهلكها، ولو كان علمانيا بحق لما كانت الانتفاضة الشعبية ضد الغبن قبل أن تدخل عليها – بقدرة قادرة – قوى طائفية حرفت مسيرتها الأصلية، وجعلتها مقدمة لفتنة إقليمية… لخدمة أهداف إقليمية.
ولكن الحكم اللبناني كان ولا يزال أضعف من أن يواجه «حزب الله» بالحقيقة، على الأقل من منطلق الدستور والقانون الدولي.
فحتى مع التسليم بنبل غاية «المقاومة»، غدت كثرة من اللبنانيين لا تعتبر «الحزب» جزءا من الشرعية السياسية في البلاد. وبصرف النظر عما إذا بقي مسمّى «المقاومة» قابلا للاستخدام أم لا في أعقاب خوض «الحزب» حربا عام 2006 من دون علم الدولة، ثم تحويله وجهة «سلاح المقاومة» إلى الداخل لتصفية خلافات سياسية بالقوة والقهر، صارت «الدولة» اللبنانية الشرعية الشريك الأضعف في معادلة داخلية مختلّة أمام ما يُفترض أنه مظهر مسلح لأحد مكوناتها كان قد احتفظ بسلاحه بتوافق وطني ما عاد موجودا.
وهكذا، بينما تتمزّق سوريا، وينزف العراق، وتحرص إسرائيل عمدا عبر «حرب غزة» الجديدة على تدمير السلطة الفلسطينية وإفقادها شرعيتها، يقف لبنان في حالة خوف من الأسوأ. ذلك أن الحرب في سوريا كشفت أمام كل اللبنانيين، أكثر من أي وقت مضى، الهوية الحقيقية لـ«حزب الله» وطبيعة ولاءاته وأولوياته… والدور الذي أسس لكي يؤديه في خدمة مشروع أكبر بكثير من لبنان.
ثم كشف تمدّد «داعش» في العراق وشرق سوريا بالسرعة المريبة التي تحقق فيها، ومن ثَم إقدامه على ممارسة تهجير ديني غير مسبوق في تاريخ الشرق الأدنى الحديث بحق المسيحيين تحت شعارات تدّعي الإسلام… أن وضع المسيحيين في المنطقة بات يستدعي وقفة تأمل وتحليل.
وها نحن نعيش اليوم مأساة جديدة في غزة، أزعم أنه لا مجال فيها للرهان على عامل المصادفة، إذ لا تخاض حروب عبثيا في غياب غايات سياسية. والقيادة الإسرائيلية الحالية بالذات، رفضت علنا تفاهم السلطة الفلسطينية مع حماس. وفي صميم مصلحتها الآن تصفية السلطة، وهذا ما قد يؤول إليه أي تفاهم على هدنة طويلة في غزة تعلن بعدها حماس انتصارا مؤزرا على غرار انتصار «حزب الله» عام 2006.
الانهيار المحتمل للسلطة الفلسطينية وانتصار حماس سينعكسان على الأرجح في مخيّمات لبنان، ولا سيما عين الحلوة بضواحي صيدا، كبرى المدن السنية في الجنوب الشيعي. وشرارات ما حدث في الموصل والقرى المسيحية المحيطة بها، في أعقاب ما حلّ بالعديد من البلدات المسيحية في سوريا، ومنها معلولا، أيضا ستؤثر سلبا على المشهد اللبناني. وفوق هذا وذاك، كان التنافر السنّي – الشيعي على مستوى المنطقة قد فعل فعله منذ فترة على الساحة اللبنانية، وهذا ما أبرز ظواهر مثل الشيخ أحمد الأسير في صيدا، والجماعات المتشدّدة المتعددة في طرابلس عاصمة شمال لبنان، ناهيك مما يمكن أن توفره بيروت نفسها من بيئة حاضنة.
التجاهل لن يحل المشكلة. والكلام المزوق اللطيف فات وقته. والاعتدال السني الذي يمثله تيار «المستقبل» بات – رغم هناته السياسية – بحاجة إلى من يلاقيه جديا في منتصف الطريق على الجانب الشيعي، لا سيما وإن بعض المسيحيين المحسوبين على محور طهران – دمشق ماضون في زحفهم الانتحاري نحو الهاوية.
ولقد أطلق سعد الحريري، زعيم «المستقبل»، مبادرة خلال الأسبوع الماضي اعتبرها «خريطة طريق» تبدأ بتحصين لبنان عبر انتخاب رئيس للجمهورية، لكن موقف «حزب الله» المعطل معروف، كما جاء سريعا موقف أتباعه من المسيحيين… رافضا رؤية الحريري، ومفسرا إياها وفق التزامه الراسخ بفكرة «تحالف الأقليات» ضد السنّة.
هذه المؤشرات كلها تضع لبنان من جديد في مهبّ الريح.