IMLebanon

لبنان من العدم إلى الفراغ

 

غسان سعود

 

مهم كيف تدخل القصر الجمهوري. لكن الأهم كيف تخرج منه. لا يذكر الرئيس ميشال سليمان السيارة التي صعد بها إلى القصر، فقد مرت سنوات على آخر مرة استخدم فيها تلك السيارة المتواضعة. وها هو يغادر القصر غداً بموكب من نحو ثلاثين سيارة، تتقدمها ثمان فائقة الفخامة سجّلها قبل بضعة أيام فقط، اثنتان منها من نوع Mercedes 2013 – 0 Km مصفحة، وخمس رباعية الدفع «موديل السنة»، اثنتان «نيسان ألتيما» واثنتان فورد» وواحدة «أركاد»، إضافة إلى «رينو كانغو»، وجميعها مسجلة باسم ميشال نهاد سليمان، في ظل تضارب في المعلومات حول إدخال هذه السيارات التي تقدر قيمتها بنحو مليون دولار من دون جمرك باعتبارها تخص القصر الجمهوري، أو جمركتها بشكل قانوني لكونها مسجلة باسم سليمان لا القصر. مع العلم أن من يدفع ثمن السيارات لن يغصّ بتكلفة الجمارك، خصوصاً أنه لم يتعب كثيراً في جمع ثمنها. علماً أن راتب السنوات الست في رئاسة الجمهورية لا يكاد يكفي لشراء سيارة مصفحة واحدة.
ولم يعلم بعد إن كان موكب السيارات سيحظى بمرافقة جوية من الطوافة التي حصل عليها الرئيس سليمان من أمير قطر السابق، وأقفل القطريون من يومها الباب في وجهه. ولا شك أن سليمان سيحتار في أمر وجهته، فقبل رئاسة الجمهورية كان يتنقل بين مساكن الضباط ومنزل عمه في عمشيت، أما اليوم فلديه في عمشيت وحدها عدة منازل وفي لحفد فيلا صيفية وفي بعبدا مروحة واسعة من الخيارات، أهمها بعد السفارة السورية بنحو مئتي متر.

أمر سليمان فور دخوله القصر بخفض عديد الحراس المرافقين للرئيس إميل لحود من 25 إلى تسعة فقط، فيما ترافق فخامته غداً سرية كاملة يتجاوز عديد أفرادها السبعين. لعل عدد منازله الجديدة يبرره بحكم الحاجة إلى حارسين أمام كل شقة. إلا أن الأهم من هذا كله أنه يخرج من القصر كما دخله، من دون ساعة ماسيّة في يده. فبعض فريقه حرص منذ بداية عهده على بيع كل الساعات التي أهداها الملوك والأمراء إليه، وإذا بهم يفاجَأون بالشركات المصنّعة لها تُعلمهم بأن هدية تُباع في السوق السوداء فور خروجها من قصورهم. ويغادر، مع كل الأسف، بجواز سفر لبنانيّ فقط، في ظل بحث قانونيين لبنانيين وفرنسيين في احتمال استكمال ملاحقته القانونية بجرم حيازة جوازات سفر فرنسية مزورة هو وعائلته. فالحصانة الرئاسية سقطت عنه، بعد سقوط حصانة قيادة الجيش المعنوية.
لن يقرأ أحد خطاب الوداع ولا كتيب الإنجازات الرئاسية، كل ما سيذكره التاريخ عن فخامته، حين يضطر إلى ذكره في أحد هوامشه، أنه أول رئيس جمهورية في العالم حصل على جواز سفر مزوّر من دولة أخرى. يمكن كتاب «غينيس»، بالمناسبة، التحرك على هذا الصعيد، ويمكن سليمان نفسه تسجيل براءة اختراع. سيشير التاريخ إلى إجلاسه صهريه، من دون صفة رسمية لهما، في الاجتماعات خلفه، في خطوة لم يقدم عليها الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي ولا الرئيس العراقي صدام حسين. سيذكر شقيقه ومحطات الوقود، شقيق زوجته ومجلس إدارة الكازينو، وابنه وإنجاز منع لبنان من المشاركة في مباريات كرة السلة الدولية. سيذكر التاريخ، من دون شك، رئيساً يصف مقاومة حررت أرضه وشعبه من الاحتلال الاسرائيلي بأنها خشبية. هو أول رئيس يمضي عهده كاملاً من دون إصدار قانون موازنة ليكون لبنان الدولة الوحيدة في العالم التي تجبي حكومتها وتصرف من دون موازنة، علماً أن الدستور أعطى الرئيس صلاحية إصدار الموازنة بمرسوم إذا عرقل مجلس النواب إصدارها ضمن المهل الدستورية. وفي عهد سليمان، كسر لبنان رقم بلجيكا القياسي: 192 يوماً من دون حكومة. فما بين استشارات الرؤساء تمام سلام (309 أيام) ونجيب ميقاتي (139 يوماً) وسعد الحريري (135 يوماً) وفؤاد السنيورة (45 يوماً)، أمضى اللبنانيون عامين من أعوام سليمان الستة من دون حكومة. يضاف إليها نحو عام بين استقالة حكومة وتكليف رئيس حكومة آخر ومشاورات البيان الوزاري وتعطيل جلسات مجلس الوزراء، وعام آخر مسافراً. أما العامان الباقيان، فكانا حافلين أمنياً ودستورياً واقتصادياً وسياسياً. إنجازات على مد النظر. لا يمكن من انتخب رئيساً بمخالفة واضحة للدستور أن يؤتمن طبعاً على الدستور. أول رئيس لا يجري تعيينات، مدخلاً لبنان هنا أيضاً في كتاب «غينيس» من حيث حجم الشغور في الإدارات العامة. مجلس القضاء الأعلى من دون رئيس. يمدد لأعضاء المجلس الدستوري خلافاً للدستور. حتى خلال الحرب، لم يحصل أن كانت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي من دون مجلس قيادة ومدير عام. حتى الاستحقاقات الدستورية، عجز سليمان عن تأمين حصولها في موعدها، فجرى التمديد للمجلس النيابي. لا قانون انتخابات عادلاً في عهده، ولا إقرار للامركزية الإدارية؛ مجرد خطابات وندوات ومؤتمرات ينظمها المقربون منه بتكلفة عالية لا يُرى منها شيء. أما آخر مرة حصل فيها شغور في مجلس قيادة الجيش كالشغور الحاصل اليوم، فكان قبل 25 عاماً حين استقال نصف أعضاء حكومة العماد ميشال عون العسكرية. حتى في تسليحه المفترض للجيش، كان يقدم خدمة للسعودية وفرنسا وليس للجيش، فمن يريد تسليح الجيش فعلاً بما يحتاجه الجيش يلبي الدعوات الروسية لطلب ما يشاؤه الجيش وليس ما تسعى شركات الصيانة الفرنسية والأميركية لإعطائه له. ها هو قبل بضعة أعوام يحتفل بتأمينه طوافتين لإخماد الحرائق، غداً يعددهما ضمن إنجازات عهده، فيما الحرائق كادت تصل إلى قصره قبل عشرة أيام من دون أن تحرك الطوافتان ساكناً لعدم قدرة لبنان على صيانتهما!

أول رئيس يمضي
عهده كاملاً من دون إصدار قانون موازنة
يصدق الرئيس سليمان نفسه حين يسهب في الحديث عن بطولاته التحكيمية، سواء بين روسيا وأوروبا، أو بين سوريا والسعودية أولاً، والسعودية وقطر ثانياً، أو بين حركة حماس وحركة فتح، وتقريبه بين السعوديين والفرنسيين. أما فعلياً، فالصراعات اللبنانية شاهدة على براعته الاستثنائية في ممارسة دوره الدستوري: الحكم بين اللبنانيين؛ من جبل محسن وباب التبانة إلى عرسال وجوارها. اخترع سليمان إعلان بعبدا ليشرّع تحويل لبنان إلى ممر لتنظيم «القاعدة» باتجاه سوريا. هو حتى في عمشيت، عجز عن أداء دور الحكم، فدخل في زواريب كان يصطدم بجدار تلو الآخر في نهاياتها.
لعل الرئيس أمين الجميّل الأكثر سعادة بمغادرة سليمان القصر بعدما محا بأفعاله كل مآثر عهد الجميّل السيئة. الراهبات البعبداويات اللواتي خفض المقربون من الرئيس قيمة استثمار أراضيهن ليضمنوا استئجارها بتكلفة قليلة جداً في غاية السعادة. الرهبان الذين ضغط المقربون من الرئيس عليهم في جبيل ليضمنوا استئجار أرضهم ببضعة آلاف ليرة في غاية السعادة. كل مَن ملّ من الخداع القائل أمس إن «7 آيار أحزنه جداً»، فيما هو لم يحرك الجيش لإيقاف السابع من أيار بحكم حساباته الرئاسية، سيكون اليوم في غاية السعادة. كل من ملّ من تلك الابتسامة المستفزة ستغمره السعادة. تكفي مقارنة وزراء الرئيس في العهود السابقة ووزراء هذا العهد؛ عهد كان وزراءه الياس المر ومنى عفيش ومروان شربل وأليس شبطيني وسمير مقبل.
سيغادر الرئيس ميشال سليمان غداً قصر بعبدا، ليبقى فيه من سيتهافتون اليوم على وداعه في القصر. يذهب هو ويبقون هم، مجرين تعديلاً «فوتوشوبياً» بسيطاً على الصور التي تزين صالوناتهم لاستبدال بوجه سليمان وجهَ من سيخلفه. ستكون قوى 14 آذار هناك أيضاً، ولو اطمأن سليمان إلى حضورها لما تشجع على اقتراح إجراء هذا الاحتفال الوداعي، فهو تجنب أخيراً إحراج الاستقبالات الشعبية في عدة محطات جبيلية. تريد قوى 14 آذار رئيساً جديداً يؤمن استمرارية لهذا العهد، بكل إنجازاته أمنياً وسياسياً واقتصادياً، وحتى اجتماعياً.
هذا كله كان خطأ قوى 8 آذار. أدارت هذه القوى أذنها الطرشاء للنائب سليمان فرنجية وكل من حذرها من قائد الجيش السابق. بعد انتصارها الميداني الحافل، ذهبت مهزومة إلى الدوحة لتوقع على انتخاب سليمان رئيساً. يومها تخلت عن رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون، واليوم الأمر نفسه وارد. ثمة من لا يتعلم من أخطائه، التجديد لسليمان عبر سليمان آخر وارد. أما سليمان المغادر فيترك خلفه وطناً يخرج من مرحلة العدم الى مرحلة الفراغ.