ما من شكّ في أنّ العواصم الغربية تستعدّ لمواكبة عمل عسكريّ يهدف إلى ضرب تنظيم «داعش» في العراق. والمؤشّرات إلى ذلك كثيرة، وتهدف في درجة أولى إلى تحضير الرأي العام لمواكبة هذه العملية.
رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون تحدّث عن وصول خطر «داعش» إلى قلب لندن، وكلام مماثل في الولايات المتحدة الاميركية عن الخطر الوشيك الذي يُهدّد المجتمع الاميركي.
وفي موازاة ذلك، يتولّى الإعلام الغربي التركيزَ على الجرائم المرعبة التي ينفّذها هذا التنظيم وعلى حملة إبادته للأقليات الدينية، والأهمّ نشرُه صوَرَ قطعِ رأس الصحافي الاميركي جيمس فولي.
وبذلك أصبح الرأي العام الغربي جاهزاً للانخراط في الحرب ضد «داعش»، كونه يُمثّل تهديداً مباشراً للقِيم الإنسانية والاستقرار السلمي وحاملي الجنسيات الأجنبية. لكنّ الأهمّ الترتيبات التي كانت سبقت التعبئة الإعلامية والتي تناولت التفاهمات السياسية والمصالح الاقتصادية.
ما من شكّ في أنّ التدخّل الجوّي السريع للولايات المتحدة الأميركية ضد «داعش» لحظة اقتراب قوّاته من أربيل مرتبطٌ بحماية المصالح الاميركية، المتمثلة خصوصاً بشركات النفط العملاقة «اكسون موبيل» و«شيفرون» واستثماراتها الضخمة في إقليم كردستان.
وقد أشارت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى وجود آلاف الأميركيّين في أربيل بينهم عدد لا بأس به من ضبّاط وكالة الاستخبارات المركزية. بالإضافة إلى أنّ المصلحة السياسية لواشنطن تقضي بحماية إقليم كردستان وفقَ قوّته الحالية، ليتناقض مع محيطه على اختلاف تنوّعه.
لذلك، من المنطقي الاعتقاد أنّ تفاهماً سياسياً حصل بين واشنطن ودول المنطقة، مثل تركيا والعراق وخصوصاً إيران، أنتجَ استعداداً غربياً للمساعدة في ضرب «داعش». صحيحٌ أنّ ترتيب السلطة في العراق شكّلَ تأكيداً واضحاً لحصول هذا التفاهم، لكنّ بنودَه لا تتوقّف هنا.
وما من شكّ أيضاً في أنّ التفاهمات شمَلت المرحلة اللاحقة، مرحلة التركيبة الحكومية وخصوصاً الحقائب الأمنية، حيث تتمسّك طهران بأن تبقى من حصّتها. وشملت كذلك مصيرَ المنطقة التي ستُطرَد «داعش» منها ونفوذ الدوَل الإقليمية في العراق، إضافةً إلى مستقبل هذا البلد وتمسّك إيران بمنع تقسيمه، ومستقبل المناطق الكردية وخشية إيران من دولة كردية تشمل أكراد العراق وسوريا وتركيا، وفي هذه النقطة تلتقي مع المخاوف التركية.
وهناك مَن يذهب أبعد من ذلك، إلى «داعش» في سوريا وملامح ترتيب الوضع هناك وسط تلميحات عن احتمال شمول العملية بعضَ هذه المناطق. لكنّ الثابت أيضاً أنّ واشنطن والعواصم الغربية لن تنزلق في فخّ المشاركة البرّية بل ستكتفي بتأمين غطاء جوّي، وربّما صاروخي، من البحر وبفاعلية، إضافةً إلى مشاركة ضبّاط خبراء في غرَف العمليات.
والثابت أيضاً إشراك القوى المحَلية السنّية في القتال، والتي تدين بالولاء الى المملكة العربية السعودية التي كانت لافتةً تهنئتُها رئيسَ الجمهورية ورئيسَي مجلس النواب والحكومة في العراق، ومسارعتُها إلى دعم هذا البلد بـ500 مليون دولار اميركي. والثابت كذلك مشاركة البشمركة الكردية في القتال، ولو وفقَ تفاهم مدروس.
في اختصار، تنظيم عملية حربية مشابهة في بعض نواحيها لِما حصل في ليبيا لدى الإطاحة بنظام معمّر القذافي، لكن هناك من يعتقد منذ الآن بأنّ العملية قد لا تطيح بتنظيم «داعش» في العراق نهائياً، بل سيُترك بعض الجيوب لأهداف تتعلق بمسار المفاوضات بين واشنطن وطهران على البرنامج النووي.
ومن البديهي الاستنتاج أنّ إسرائيل لن تكون راضية عن هذا المسار، كونه سيزيد لاحقاً التقاربَ بين طهران وواشنطن، وبالتالي تراجُع الاتكال الأميركي على إسرائيل بعض الشيء.
ومن هنا ربّما تحليق طائرات التجسّس الإسرائيلية في سماء إيران وعودة العنف المجنون في غزّة وإطلاق الصواريخ من لبنان وسوريا.
لكنّ الأهمّ الهَمس الذي يدور عن عودة التواصل الأمني غير المباشر والبعيد عن الأنظار بين واشنطن ودمشق. تواصُل له علاقة بحضور «داعش» في سوريا وبالعملية العسكرية التي تُحَضَّر في العراق وستلامس مناطقَ نفوذ «داعش» في سوريا.
ويمكن الاستنتاج أيضاً أنّ المواكبة الإعلامية الغربية لوحشية «داعش» قد تكون حَضَّرت الرأي العام أيضاً لإمكان التعاون مع النظام السوري لدحرِ الخطر الأكبر. ففي سوريا هناك قيادات ومسؤولون في التنظيمات المتطرّفة معتقلون، وبالتالي هناك اعترافات كثيرة ومعلومات مهمّة يحتاج إليها الغرب.
صحيح أنّ كلّ هذه الصورة لم تلحَظ الساحة اللبنانية، لكن من «البراءة» في مكان الاعتقاد أنّ هذه العاصفة لن تهزّ لبنان أيضاً. ففي بعض المناطق الحدودية بين لبنان وسوريا مجموعات متطرّفة كبيرة قادرة على هزّ الاستقرار الأمني كلّ لحظة. وفي عرسال الجرحُ ما يزال مفتوحاً على زَغل، والأهمّ المخاوف المتزايدة من الحركة الحاصلة عند حدود البقاع الغربي مع سوريا.
وفي حال اشتداد المعارك في العراق، لبنان يبقى ساحة ضغط مشروعة في رأي هؤلاء، وقد يجد هذا التحرّك تفهّماً لدى بعض الدول الساعية إلى الحدّ من نفوذ طهران في كلّ من سوريا ولبنان، يعني فتحَ معارك مع «حزب الله» حيث تبرز هنا أهمّية عرسال ومناطق البقاع الغربي، فيما المصلحة اللبنانية تقضي بأن يقفل الجيش اللبناني الثغرات الأمنية المفتوحة.
من هنا يقرأ البعض الحملات على الجيش في خطوةٍ استباقية لسخونةٍ متوقّعة قريباً جداً، سخونةٍ ستفرض نفسَها على الجميع، لتأخذ لبنان إلى تسوية ينتج عنها انتخاب رئيس جديد للجمهورية وبشكل يتناسب مع المشهد الإقليمي الجديد.