كل ما في لبنان بات محلاً للصراع بين فئاته ومكوّناته: النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتبعية للخارج وتفسير التاريخ والاحداث والمستقبل… بل ان الهواء الذي يتنفّسه اللبنانيون، بات مدار خلاف.
لكن نظرة معمقة من الأعلى إلى خريطة المنطقة والصراعات الدموية الدائرة فيها، تشير الى وضع «شاذ»: ما الذي يجعل من لبنان استثناء عن القاعدة، قياساً بما يجري في ساحات اقتتال من حوله، علماً ان هذا البلد، بتركيبته اولاً وارتهان مكوّناته للخارج ثانياً، كان تاريخياً سباقاً الى الاقتتال الداخلي، بمؤامرة أو من دونها؟
قد يقال ان القوى الخارجية، الاقليمية والدولية، غير معنية بنشوب اقتتال في لبنان، أو ان هذا البلد قريب جداً من اسرائيل، ولا مصلحة في الإضرار بأمنها ومصالحها. هذا التفسير، على أهميته، غير كاف. إذ كيف يمكن للخارج تحمل تداعيات الحرب في سوريا، فيما لا يمكنه تحمل ذلك في لبنان؟ وكيف يمكن لاسرائيل ان تتعايش مع حروب الساحات المحيطة بها، فيما تعجز عن ذلك مع الساحة اللبنانية؟
أحد التفسيرات المتداولة هو ان القادر على الحرب لا يريدها، وأن من يريدها غير قادر عليها، لكن، هل يمكن منع غير القادر عن الوصول الى القدرة المفقودة، هذا إذا كانت مفقودة فعلاً؟ وفي المقابل، من يضمن ان القادر على الحرب سيستمر في الامتناع عنها؟
وتزيد تفسيرات أخرى على هذا التفسير، بأن كل من هو قادر على الحرب، بالفعل او بالقوة، يجد في الوضع الراهن مصلحة له، اقله آنياً ومرحلياً، وكل بحسب تطلعاته وظروفه وقدراته الفعلية. والواقع كما هو، افضل ما يمكن الوصول اليه بالنسبة لكل طرف من الاطراف اللبنانيين في حال الاقتتال، وتحديداً في زمن انتظار تشكل خريطة جديدة للمنطقة، بخسارة محور وانتصار اخر، او بتسوية ما. وقد يتشارك اللبنانيون والخارج، في هذه النظرة وهذه المصلحة.
اما الجهة او الفئة اللبنانية التي لا ترى ان مصلحتها محققة، سواء الآن او لاحقاً، فهي غير قادرة على الحرب، لا بالفعل ولا بالقوة، او ان الحرب لن تحقق لها الا مزيداً من الخسارات الداخلية. اذاً، المكونات الفاعلة كلها لا ترى مصلحة لها في الحرب والاقتتال الداخلي، وبالتالي لا حرب حتى الان، لكن، الى متى ستنجح هذه المعادلة الهشة في منع الحرب؟ علماً ان كل مقدمات حرب كهذه وظروفها موجودة بالفعل. قد يكفي عامل اضافي يدخل الى الساحة، بإرادة اللبنانيين او رغماً عنهم، كي يغيّر الارادات والمصالح، وحينها قد لا تنفع اي معالجة وقائية او استباقية لمنع الحرب. لبنان يعيش على خيط رفيع من الصراع الداخلي المشبع بالتناقضات وبالمصالح والتطلعات والخلافات، والانتقال من حرب بلا دماء الى حرب دموية ليس صعباً بالمطلق.
مع ذلك، هناك في لبنان من يتلهّى بجنس الملائكة وبصغائر الامور قياساً بهول الكارثة المحدقة بهذا البلد. لو نظر سياسيو لبنان الى كل الخلافات، من انتخاب رئيس جمهورية الى الانتخابات النيابية الى تنظيم عمل مجلس الوزراء الى التعيينات الادارية… اضافة الى التصريحات والمواقف التحريضية وغير المسؤولة، من منظور محلها في دفع الحرب او منعها، لاختلفت أمور كثيرة.
في الوقت نفسه، لن ينجح اللبنانيون في اي استحقاق مقبل، لا رئاسة جمهورية ولا انتخابات نيابية ولا التوافق على سياسة خارجية او داخلية. مع ذلك، كان اهم انجاز توصلوا اليه، في زمن قلّّت فيه الانجازات او انعدمت، هو الحكومة السلامية الحالية. لقد نجح من دفع اليها، عن فهم وإدراك لدى البعض او عن نظرة ضيقة لدى البعض الاخر، في تجنيب لبنان كارثة كانت محدقة به، لكن هل يكفي هذا الانجاز لمنع الحرب والاقتتال الداخلي؟
تقول احدى النظريات المتشائمة ان الحرب ستنشب، وإن المتحاربين سيدركون، متأخرين، انهم في حرب، وقد تكون احدى شراراتها فشل «حرب استباقية» موضعية ما، تتدحرج نتائجها وتداعياتها نحو الاسوأ، فيما ترى نظرية اخرى ان في الامكان احتواء تداعيات كهذه، لأنها لن تغير وحدها اصل المعادلة ورضى الاطراف عليها. فلنأمل ألا يخبّئ المستقبل مفاجآت مؤلمة، وان تصدق تنبؤات المتفائلين لا المتشائمين، برغم ان التمني وحده غير كاف.